لأنَّ المفعول الثاني أصله خبر لمبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد، إنَّما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار.
فإذا جعلت {في ظُلُمات} في موضع الحال، كان قد فُهِم منها أن مَن هو في ظُلمةٍ لا يُبصر، فلا يكون في قوله {لا يُبصرونَ} من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار.
ألا تَرى إلى تخريج النحويين قول امرئ القيس:
إذا ما بكَى مِنْ خَلفِها انحرفت له * بِشِقٍّ وشِقٌّ عِندنا لم يُحَوَّلِ
على أنَّ " وشِقٌّ " مبتدأ، و" عِندنا " في موضع الخبر، و" لم يُحوَّلِ " جملة حالية أفادت التأكيد.
وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكدًا، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشِّق عنده، فإذا استقرَّ عنده ثبت أنه لم يُحوَّل عنه) انتهى
وقال السمين:
(ولا يجوز أن يكون {في ظُلُمات} حالا، و {لا يُبصرون} هو المفعول الثاني.
لأنَّ المفعول الثاني خبر في الأصل، والخبر لا يُؤتَى به للتأكيد، وأنت إذا جعلت {في ظُلُماتٍ} حالا فُهِم منه عدم الإبصار، فلم يُفد قولك بعد هذا {لا يُبصرونَ} إلا للتأكيد، لكن التأكيد ليس من شأن الأخبار، بل من شأن الأحوال، لأنها فضلات.
ويؤيِّد ما ذكرتُ أنَّ النحويين لمَّا أعربوا قولَ امرئ القيس
إذا ما بكَى مِن خلفِها انصرفت له * بِشِقٍٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحوَّل
أعربوا " شِِقٌّ " مبتدأ، و" عندنا " خبره، و" لم يُحوَّلِ " جملة حالية مؤكدة.
قالوا: وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل.
وأبَوْا أن يجعلوا " لم يُحوَّلِ " خبرا، و" عندنا " صفة لـ" شِقٌّ " مسوغا للابتداء به.
قالوا: لأنه فُهم معناه من قوله " عندنا "، لأنه إذا كان عنده، عُلم منه أنه لم يُحوَّل، وقد أعربه أبو البقاء كذلك، وهو مردود بما ذكرت لك.
ويجوز إذا جعلنا {لا يُبصرون} هو المفعول الثاني، أن يتعلق {في ظُلُماتٍ} به، أو بـ {تركهم}، التقدير: وتركهم لا يبصرون في ظلمات) انتهى
قلتُ: ما ذهب إليه أبو حيَّان، وتلميذه السمين، قول وجيه، ورأي له حظٌّ كبير من النظر.
وهو أولَى من قول العكبري وابن هشامٍ – رحمهما الله -.
غير أنني لا أوافق السمين في ما ذهب إليه، من جواز تعلُّق {في ظُلُماتٍ} بـ {يُبصِرونَ}، من وجهين:
الأول: تعلُّقه بالفعل " يُبصرون " يُفوِّت فائدة التأكيد للجملة الحالية.
الثاني: تعلُّقه بـ" يُبصِرونَ " لا يفيد مزيَّة لغيرهم، إذ أنَّ المنافق وغيره لا يُبصر في الظلمات، فتضعف فائدة التصيير التي أُشْرِبها الفعل " تركَهم "، والله أعلم.
وقد ذكر النحَّاس أنَّ جملة {لا يُبصِرونَ} حال.
ووافقه أبو محمد مكِّي القيسي، في " مشكل إعراب القرآن ".
وابن آجرُّوم، في " مشكل إعراب القرآن الكريم "
ومُحي الدين، في " إعراب القرآن الكريم "
بقي النظر في قولك: (وهل يجوز أن يكون المفعول الثاني لـ" تَركَ " هو {في ظُلُماتٍ}، وقد قال الله تعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، مع التسليم بأنَّ {تَركَهم} بمعنى: " صيرهم ")
أقول: هذا الانتباه، يدلُّ على فضل الله عليكم، بالفَهم الزائد، والذِّهن الشاهد، " ما شاء الله ".
وليس لمثلي أن يصل إلى عمق هذا السؤال، وكيف لِمَن لم يتفطَّن له ابتداءً، أن يدرك التعليق عليه؟، والله المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
ولعلِّي أكتفي بنقل بعض أقوال أهل العلم، عسَى أن يقترب أحدها من الهدف.
أستاذي الحبيب:
هل عدم النور, هو الظلمة؟
اختلف العلماء فيها، فقيل: هو كذلك.
وقيل: هو عَرَض ينافي النور، وهو الأصح، لتعلُّق " الجَعْل " في قوله تعالى: {وجَعَل الظُّلُماتِ والنورَ} بمعنى الخلق به، والإعدام لا توصف بالخلق، قاله أبو حيَّان.
هل المقصود بـ" الظلمات "، هو العَرَض الذي ينافي النور، في الآية الكريمة؟
اختلف العلماء أيضًا، قال ابن عباس: و" الظلمات " هنا العذاب، وقال مجاهد: ظلمة الكفر، وقال قتادة: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، وقال السدّي: ظلمة النفاق.
فعلى هذه الأقوال، كلمة {بِنورِهم} لا تُغني عن {في ظُلُماتٍ}
وقال النسفي:
(ولم يقل ذهب الله بضوئهم، لقوله {فلمَّا أضاءَتْ}، لأنَّ ذكر النور أبلغ، لأنَّ الضوء فيه دلالة على الزيادة، والمراد إزالة النور عنهم رأسًا، ولو قيل: ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة، وبقاء ما يُسمَّى نورًا.
ألا تَرى كيف ذكر عقيبه {وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ}، والظلمة عَرَض ينافي النور، وكيف جمعها، وكيف نكَّرها، وكيف أتبعها ما يدلُّ على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان، وهو قوله {لا يُبْصِرُونَ} انتهى
وجاء في " التحرير والتنوير ":
({وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ}، هذه الجملة تتضمَّن تقريرًا لمضمون {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، لأنَّ مَن ذَهبَ نورُه بقي في ظُلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها، فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية، فإنَّ قوله {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} يفيد أنهم لمَّا استوقدوا نارًا فانطفأت، انعدمت الفائدة، وخابت المساعي، ولكن قد يذهل السامع عمَّا صاروا إليه عند هاته الحالة، فيكون قوله بعد ذلك: {وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} تذكيرًا بذلك وتنبيهًا إليه) انتهى
ثمَّ قال:
(وتفيد هذه الجملة أيضًا أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد، على ما في قوله {وتَرَكَهُمْ} من إفادة تحقيرهم، وما في جمع {ظُلُماتٍ} من إفادة شدة الظلمة، وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمنًا من جملة {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ})
والله أعلم
مع خالص تحياتي وتقديري
¥