قال الله تعالى: {اللّهُ ولِيُّ الَّذِينَ ءَامنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلَى النُّوُرِ، والَّذِينَ كَفَرُوا أولِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُماتِ} سورة البقرة 257
وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ويُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إلَى النُّورِ} (16) سورة المائدة 16.
وقال عزَّ اسمه: {كِتابٌ أنزَلْناهُ إلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلَى النُّورِ} سورة إبراهيم 1.
وغيرها من الآيات.
قال ابن كثير:
(ولهذا وحَّد - تعالى لفظ النور، وجمع الظلمات، لأنَّ الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة ولكنها باطلة، كما قال تعالَى: {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}، إلى غير ذلك من الآيات، التي في لفظها إشعار بتفرُّد الحقِّ، وانتشار الباطل وتفرُّده وتشعُّبه) انتهى
وأما قولك: (أيا كان الظلام، فله ضدٌّ معاكس له من النور:
فإذا كان كفرا، فالنور إيمان
أو نفاقا، فالنور صدق
أو عذابا، فالنور رحمة)
أقول: أصبتَ – أيها المبارك -، هو كذلك.
غير أني أرَى – والله أعلم -، أنه لا بدَّ أن يُحمَل لفظ " النور " الوارد في الآية الكريمة، على معناه الحقيقي، مع جواز أن يراد به معنًى زائدًا على النور المعروف.
وذلك لأنَّ المقصود من ضرب المَثَل هو تقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس.
والمَثَل المضروب، يبدأ من قوله تعالى: {الذي استَوقَدَ نارًا} إلى قوله: {ذَهَبَ اللهُ بِنورِهِم}.
ولا يصحُّ أن يكون الوقف على: {ما حَولَهُ}، لأنَّ معنَى المَثَل لم يكتمل.
قال الأشموني، في كتابه " منار الهدَى، في بيان الوقفِ والابتدا ":
({نارًا}، وكذا {ما حولَهُ}: ليسا بوقف، لأنهما من جملة ما ضربه الله مثلاً للمنافقين بالمستوقد نارًا، وبأصحاب الصَّيِّب، والفائدة لا تحصل إلاَّ بجُملة المثل، {ذَهبَ اللهُ بنورِهم} " كاف " على استئناف ما بعده، وأنَّ جواب {لمَّا} محذوف، تقديره: خمدت، وليس بوقف إن جُعِل هو وما قبله من جملة المثل) انتهى
قلتُ، فالوقف على قوله تعالى: {فلمَّا أضاءَتْ ما حَولَهُ} لا يُفهَم منه معنى المَثَل، وقوله تعالى: {ذَهبَ اللهُ بنورِهِم} أفاد انطفاء النار وذهاب الضوء.
جاء في " نظم الدُّرر، في تَناسُب الآيات والسُّور ":
(فقال: {بنورِهِم}، أي: الذي نَشأ من تلك النار، بإطفائه لها، لا نور لهم سواه، ولم يقل: بضوئهم، لئلاَّ يُتوهَّم أنَّ المذهوب به الزيادة فقط) انتهى
وهو موافق لِما ذهب إليه القرطبيُّ و ابن كثير في " تفسيرهما ":
(وقوله تعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، أي: أذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقَى لهم ما يضرُّهم، وهو الإحراق والدخان) انتهى
وهو ما يُؤخَذ من تفسير البيضاوي:
(فإنه لو قيل: ذهب الله بضوئهم، احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة، وبقاء ما يسمى نورًا، والغرض إزالة النور عنهم رأسًا) انتهى
وهو نفس المعنى الذي لا يرَى العلاَّمة ابن عثيمين – رحمه الله – سواه:
(قوله تعالى: {فلمَّا أضاءتْ ما حَولَه}، أي: أنارت ما حول المستوقِد، ولم تذهب بعيدًا لضعفها، {ذَهبَ اللهُ بنورِهِم}، يعني: وأبقى حرارة النار) انتهى
أما " الظلمات "، فصحَّ حملها على معانٍ مختلفة، وذلك لعمق المعاني التي دلَّت عليها الآية، وشمولها.
فيجوز أن تُحمَل على الظلمات المتبادَرة للذِّهن، عِندَ مَن يرَى أنَّ قوله تعالى: {وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ}، تكملة لِلمثل، وليس استئنافًا.
ويجوز أن تُحمَل على معاني الظلمات الأخرى، عِندَ مَن يرَى الاستئناف مِن قوله تعالى: {وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ}.
فتبيَّن – أستاذي الكريم – أنَّ لفظ {في ظُلُماتٍ} قد أشار إلى معانٍ جديدة ومتعدِّدة، وإيضاحًا للصورة التي صاروا عليها، وإبعادًا لِما قد يُتوهَّم مِن إمكانية أن يجدوا " نورًا " في حال انتقالهم إلى مكان آخَر.
ولذلك، لا أرَى أنَّ لفظ {في ظُلُماتٍ} تقابل لفظ {بِنورِهِم}، مقابلة الشيء لنقيضه، كما تقابلا في مواضع أخرَى، إلاّ إذا أريد بها ظلمة الليل وما صاحبه من ظلمات، فيكون حينئذٍ، قد أفاد لفظ " في ظلمات " معنًى زائدًا، على لفظ " بنورهم "، وما يفيده من تقدير الضلالات المختلفة عند توجيه علمائنا المفسِّرين.
وإن تمَّ توجيهها على أنها ظلمة الكفر أو النفاق، أو ما أشبه ذلك، فالأمر ظاهر، في أنها قد حادت عن مقابلة النور الذي ورد في جملة المَثَل المضروب.
وهو ما أميل إليه من أنها قد رسمت صورة شاملة لحال المنافقين.
ويدلُّ على هذا المعنى الآية التي تلتها، قوله تعالى: {صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجِعونَ}، نسأل الله العافية والسلامة، والله أعلم.
ختامًا – أستاذي الكريم -، وقبل أن أنسحب خفية، خشية الوقوع في ما لا علم لي به، أودُّ أن أضع بين يدي هذه المناسبة سؤالاً، وأرجو أن تتفضَّل علينا بتوجيه إعراب {ظُلُماتٍ}، على رواية " قُنبل "، وهي بالجرِّ والتنوين في الثانية.
قال الله تعالَى: {أوْ كظُلُماتٍ في بَحرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوجٌ مِن فَوقِهِ مَوجٌ مِن فَوقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ} النور 40
مع عاطر التحايا
¥