ألست ترى أن الأدواء الباطنة، وما يشابهها من العيوب، والخوف، والذكر، والحزن، وما ضدها أشياءٌ باطنة؟
قال الشيخ سيبويه – رحمه الله- في موضع آخر:"عَمِي قلبه يعمى عمًى، وهو عم ٍ. إنما جعله بلاءً أصاب قلبه " 4/ 131.
قد يسأل سائل لما لم يقل "أعمى" على القياس كما زعمت أن صيغة" أفعل" تدل على العيوب، أو الأمراض الظاهرة المشابهة للعيوب، والعمى داء ظاهر؟
أقول كما فُهم من كلام الشيخ: أتت الصفة المشبهة من (عمِيَ) على "عم ٍ " هنا ٍ لأنها قُصد منها عمى القلب، لا البصر، ولو أنه أراد البصر لقال "أعمى".
يقول الرضي - رحمه الله- في شرحه للشافية:" فمن ثم قيل في عمى القلب عمٍ لكونه باطنا، وفي عمى العين أعمى ".
فالعمى داء ظاهر وعيب لذا نقول في الصفة المشبهة هو أعمى، أما إن أردت عمى القلب فهو عمٍ لأنه لا يظهر.
أخي علي - حفظك الله- قلت:" هذا سيبويه رحمه الله يمثل بالوصف من الشعث على ما قياسه (فعِلٌ) فأدخلوا عليه (أفعل) دون أن يشير إلى شذوذ، وإليك نص كلامه رحمه الله:
" ... فزعت فزعاً وهو فزعٌ وفرق يفرق فرقاً وهو فرقٌ ووجل يوجل وجلاً وهو وجلٌ ووجر وجراً وهو وجرٌ. وقالوا: أوجر فأدخلوا أفعل ههنا على فعل لأن فعلاً وأفعل قد يجتمعان كما يجتمع فعلان وفعلٌ، وذلك قولك: شعثٌ وأشعث وحدبٌ وأحدبٌ وجربٌ وأجرب. وهما في المعنى نحوٌ من الوجع."
أقول أرى أنك عكست المسألة فالنص بتمامه:" وجاء ما كان من الذعر والخوف على هذا المثال، لأنه داء قد وصل إلى فؤاده كما وصل ما ذكرنا إلى بدنه، وذلك قولك: فزعت فزعاً وهو فزعٌ، وفرق يفرق فرقاً وهو فرقٌ، ووجل يوجل وجلاً وهو وجلٌ، ووجر وجراً وهو وجرٌ. 4/ 131 - 132
وقالوا: أوجر فأدخلوا أفعل ههنا على فعل لأن فعلاً وأفعل قد يجتمعان، كما يجتمع فعلان وفعلٌ. وذلك قولك: شعثٌ وأشعث، وحدبٌ وأحدبٌ، وجربٌ وأجرب. وهما في المعنى نحوٌ من الوجع "4/ 132
وقد سبق أن استنتجنا ما نظن أنّ الشيخ أراده من الفقرة الأولى، أما التكملة فالمعنى واضح.
فالحديث عن صيغة "أفعل" وقد يخرج عن بابه ما حقه أن يصاغ بهذه الصيغة "أفعل" إلى "فَعِل"، كما في " شَعِث" فحقها "أشعث"، وحدِب، وحقها أحدب، وجرِب، وحقها أجرب. كما تخرج صيغة فعلان إلى فعل (نحو سكران و سكِر).
والعلة في هذه التداخل عند الشيخ بين الصيغ هو أن هذه الصيغ قد تجتمع في صيغ أخرى كبناء المصدر وغيره.
و المهم في ذلك أن التداخل الأول بين (أفعل وفعل) أطلق عليه الشيخ تداخل "أدخلوا" لأن هذه الصفات (أشعث، وأحدب، وأجرب) آتية إما من الألوان، أوالحلى الظاهرة، أوالعيوب والأمراض الظاهرة، فحقها أن تصاغ "أفعل" كما بيّن الشيخ في نص سابق لما ذكرنا، لاحق لما ذكره في كتابه.
قال السيرافي –رحمه الله- في شرحه للكتاب تعليقا على قول الشيخ:" يريد أن باب الأدواء يجيء على فعِلَ يفعَلُ فهو فَعِل، فإذا استعمل فيه أفْعَل فقد دخل في غير بابه.
وباب الخلق، والألوان (أفعل) ". مطبوع على هامش الكتاب بتحقيق الأستاذ إميل بديع 4/ 132.
والعكس صحيح، قد يخرج "أفعل" عن بابه، ويدخل على صيغة "فَعِل"، وهو شذوذ أيضا.
يقول الرضي -رحمه الله- في شرحه للشافية:" وقد يدخل أفعل على فعل قالوا في وجر - أي خاف - وهو من العيوب الباطنة، فالقياس فعل: وَجِر وأوجَر، ومثله حَمِق وأَحْمَق.
وكذا يدخل فعل على أفعل في العيوب الظاهرة والحلى، نحو شعث وأشعث، وحدب وأحدب، وكدر، وأكدر، وقعس، وأقعس ".
ففي الأولى بيّن دخول صيغة "أفعل" على ما حقّه أن يصاغ على "فَعِل" قياسا، كأوجر، وحقها أن تصاغ على وجِر، وأحمق وحقها أن تصاغ على حَمِق.
والثانية (وهي ما نريده في مسألتنا) بيّن دخول صيغة "فَعِل" على ما حقه أن يصاغ على "أَفْعَل" قياسا، كشَعِث، وحقها أن تصاغ على أشعث، وحَدِب، وحقها أحدب، وهكذا ...
ولولا خشية الإطالة نقلنا باقي قول الشيخ- سيبويه-، والسيرافي في هذه المسألة أيضا.
فالخروج عن الباب الذي يفترض أن يقاس عليه، ودخوله في باب آخر هو الشذوذ بعينه في القياس، وإن اطرد في السماع، كما بيّن ابن جني – رحمه الله في خصائصه، وتبعه معظم النحاة المتأخرين، والمحدثين.
¥