أو يقال: هو من العموم المخصوص فلا يكون هناك مجاز عندئذ، ويكون المخصص في هذه الصورة هو الحس، فالحس قد دل على أن السماوات والأرض ومساكنهم لم تدمر، والخطب في ذلك، كما تقدم، يسير، إذ الغرض إثبات اطراد هذا الأسلوب البلاغي في نصوص الوحي الذي نزل بلسان العرب.
ومنه قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا):
فـ "الذين": اسم موصول وهو: نص في العموم، وقد أريد به هنا خصوص: الذين كفروا من مشركي قريش، أو يهود، كما أشار إلى ذلك الإمام القرطبي، رحمه الله، في: "الجامع لأحكام القرآن": (13/ 25)، وكونه يراد به يهود أليق بالسياق الذي ورد فيه إذ نزول القرآن منجما إنما هو في مقابل نزول كتابهم جملة واحدة، على المشهور من أقوال أهل العلم، وإن رده بعضهم بأن ذلك غير متصور في تشريع الأحكام التي يلزم منه اقتران الحكم بالواقعة التي شُرِعَ فيها كتشريع قتل النفس توبةً بعد اتخاذ العجل فلا يتصور أن ذلك قد نزل ابتداء، وإنما الأليق أن يقال بنزوله بعد وقوع تلك الحادثة. والله أعلم.
فصار جمع النصوص والنظر فيها، وهو الغرض من إيراد تلك الأمثلة، صار أصلا في مثل تلك المضائق، يفزع إليه، إذا ما تمسك مدع بنص، أو جزء نص عند التحقيق، لينصر مقالته، ولو كانت في غاية البطلان، فاستدلاله محض تحكم بقبول ما يوافق مقالته ورد ما يخالفها.
ولو جمعنا نصوص الباب لتكتمل الصورة، لوجدنا القرآن والسنة قد نصا على كفر أهل الكتابين من قبلنا الذين بدلوا الرسالة السابقة، وكفروا بالرسالة اللاحقة، فهم كفار: كفر نوع وعين، لا يتوقف في ذلك إلا جاهل أو مداهن يخشى أن توجه إليه تهمة: التطرف والإساءة إلى الآخر!!!، مع أن ذلك الآخر يجاهر صراحة بكفر المخالف من بقية الملل، بل وينادي بكفر المخالف من بقية النحل في ملته، فيكفر الأرثوذكسي الكاثوليكي، ويراه مبتدعا قد حاد عن الدين الصحيح إلى دين الملك قسطمطين الذي فرض نصرانيته الوثنية على رعايا إمبراطوريته وحكم على المخالف بالكفر والزندقة، واضطهاد الروم الكاثوليك للمصريين اليعاقبة قبل الفتح الإسلامي الذي خلص المصريين من نير المحتل العنصري الذي يرى جنسه الروماني أرقى من بقية الأجناس وهذا أمر توارثه الأوروبيون ومن بعدهم الأمريكيون إلى يوم الناس هذا مع كونهم من أضل البشر مقالة في الإلهيات، اضطهادهم للمصريين قبل الفتح الإسلامي خير شاهد على ذلك.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وقوله، (أي: "بولص" أسقف صيدا الذي نقض ابن تيمية، رحمه الله، رسالته في في "الجواب الصحيح"): {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}.
أراد به الإنجيل فإن في هذا من الكذب الظاهر والافتراء على محمد بأنه أراد هذه الأمور ما هو من جنس افترائهم على الأنبياء فإنهم أخبروا أن المسيح هو خالق السماوات والأرض وأن التوراة والزبور وغيرهما من الكتب أخبرت بذلك ثم يأتون إلى ما يعلم كل عاقل أن محمدا لم يرده فيقولون إنه لا يشك فيه أحد وأنه قول ظاهر بين وكل من عرف حال محمد وما جاء به من القرآن والدين يعلم علما يقينيا ضروريا أن محمدا لم يكن يجعل النصارى مؤمنين دون اليهود بل كان يكفر الطائفتين ويأمر بجهادهم ويكفر من لم ير جهادهم واجبا عليه.
وهذا مما اتفق عليه المسلمون وهو منقول عندهم عن نبيهم نقلا متواترا بل هذا يعلمه من حاله الموافق والمخالف إلا من هو مفرط في الجهل بحاله أو من هو معاند عنادا ظاهرا". اهـ
"الجواب الصحيح"، (2/ 55).
ويقول في موضع تال:
"فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحا كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
وقد تقدم أنه كفر أهل الكتاب الذين بدلوا دين موسى والمسيح وكذبوا بالمسيح أو بمحمد في غير موضع وتلك آيات صريحة ونصوص كثيرة وهذا متواتر معلوم بالاضطرار من دين محمد.
ولكن هؤلاء النصارى سلكوا في القرآن ما سلكوه في التوراة والإنجيل يدعون النصوص المحكمة الصريحة البينة الواضحة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا ويتمسكون بالمتشابه المحتمل وإن كان فيه ما يدل على خلاف مرادهم كما قال تعالى: فيهم وفي أمثالهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ". اهـ
"الجواب الصحيح"، (2/ 73).
وذلك ملمح أصيل في مسالك أهل المقالات الحادثة في الاستدلال إذ يعدل عن المحكم الصريح إلى المتشابه المحتمل، وهل يوجد نص أصح نقلا وأصرح دلالة من قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، وقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، فقد استوعبا الأرثوذكس والكاثوليك، وما تفرع عنهما من نحل من باب أولى، فتكفير الأصل جار على الفرع، إذ للفرع حكم الأصل بداهة.
ومرة أخرى: أفاد جمع النصوص في نقض حجة المستدل ببعضها دون بعض، على طريقة: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
والله أعلى وأعلم.
¥