تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإنما يقع الخلط في هذا الباب من جهة إعمال البرهان في غير محله، فيقدم البرهان العقلي في الإلهيات، فيصير طاغوتا يتسلط على النبوة ليقبل ما وافق أقيسته ويرد ما خالفها في انتقائية لا مستند لها إلا تفاوت العقول في إدراكاتها، فما استحسنه هذا، استقبحه ذاك، وما قبله هذا رده ذاك، فلا يفصل النزاع إلى كتاب منزل.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلى عقولهم فلكل واحد منهم عقل". اهـ

واعتبر بحال الفرق الإسلامية التي خاضت في الإلهيات بقوانين عقلية حادثة، فأعملوا أقيسة العقول المخلوقة في تقرير صفات الخالق، عز وجل، وذلك في حد ذاته ناقض لقانون العقل الكلي!!!!، إذ قياس الغائب على الشاهد: قياس فاسد لعدم تصور الفرع المقيس، إذ لا بد من إدراك حقيقته قبل رده إلى الأصل المقيس عليه، فإذا قيس الباري، عز وجل، في ذاته وصفاته وأفعاله على المخلوق، فمثل الممثل، وعطل المعطل فرعا على تمثيله أولا، فما رد الصحيح الثابت إلا بتصور فاسد جعل جنس الذات والصفات والأفعال الإلهية من جنس ذوات وصفات وأفعال البشر، فإثبات صفات الذات كالعين واليد والقدم: تشبيه، بزعمه، لمجرد اشتراكها مع صفات البشر في الحقائق الكلية المطلقة، مع أن تلك لا وجود لها إلا في الأذهان، فلا توجد خارجها إلا بقيد الذات المتصفة بها، فيكون التباين بينها تبعا للتباين في الذوات المتصفة بها، وذلك أمر متصور في عالم الخلق المنظور، فيد زيد غير يد عمرو، وإن اشتركتا في اسم اليد، بل وفي الجنس الأدنى: جنس البشرية، بل وفي النوع: نوع الذكورية، فكيف إذا اختلفا في النوع أو الجنس الأعلى فالأعلى، فيد هند غير يد عمرو، ويد الجمل غير يد زيد، وبقدر التفاوت في حقائق الذات يكون التفاوت في حقائق الصفات، فكيف إذا كان البحث في صفات الخالق، عز وجل، وقد تقرر لدى كل عاقل: عظم التفاوت بين جنس الربوبية وجنس العبودية، فالتفاوت بين صفات الخالق، عز وجل، وصفات المخلوق فرع عن التباين في حقيقة الذات، فمن ذا الذي يدرك كنه ذات الباري، عز وجل، ليقيسها على ذوات المخلوقات، أو ليقيس الصفات القائمة بها على صفات المخلوقات الحادثة، والشيء إنما يدرك كنهه برؤيته أو رؤية نظيره أو خبر صادق عنه، وكلها ممتنعة في حق الباري، عز وجل، فلا تراه الأبصار في دار الفناء، ولا تدركه في دار البقاء وإن تنعمت برؤيته في دار المقامة، ولا نظير له في العالم المشهود ليقاس عليه، ولم يره أحد من الخلق لنقبل خبره عنه، فالطريق إلى إدراك كنه الحقائق مقطوع، والطريق إلى علم المعاني بلا هاد من النبوة مسدود.

ومقابل الغلو في استعمال البرهان العقلي: ظهر غلو آخر في استعمال البرهان النقلي في مقابل إهمال البرهان العقلي، فظهرت مقالة أهل الظاهر في العمليات، فنحي العقل عن النظر في علل الأحكام، ورد الأمر برمته إلى النص، والغلو لا يرد بغلو، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الاستقامة":

"وكذلك الأمور العملية التي يتكلم فيها الفقهاء فإن من الناس من يقول إن القياس يحتاج إليه في معظم الشريعة لقلة النصوص الدالة على الأحكام الشرعية كما يقول ذلك أبو المعالي، (وهو: إمام الحرمين الجويني رحمه الله)، وأمثاله من الفقهاء مع انتسابهم إلى مذهب الشافعي ونحوه من فقهاء الحديث فكيف بمن كان من أهل رأي الكوفة ونحوهم فإنه عندهم لا يثبت من الفقه بالنصوص إلا أقل من ذلك وإنما العمدة على الرأي والقياس حتى أن الخراسانيين من أصحاب الشافعي بسبب مخالطتهم لهم غلب عليهم استعمال الرأي وقلة المعرفة بالنصوص.

وبإزاء هؤلاء أهل الظاهر كابن حزم ونحوه ممن يدعى أن النصوص تستوعب جميع الحوادث بالأسماء اللغوية التي لا تحتاج إلى استنباط واستخراج أكثر من جمع النصوص حتى تنفي دلالة فحوى الخطاب وتثبته في معنى الأصل ونحو ذلك من المواضع التي يدل فيها اللفظ الخاص على المعنى العام.

والتوسط في ذلك طريقة فقهاء الحديث وهى إثبات النصوص والآثار الصحابية على جمهور الحوادث وما خرج عن ذلك كان في معنى الأصل فيستعملون قياس العلة والقياس في معنى الأصل وفحوى الخطاب إذ ذلك من جملة دلالات اللفظ". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير