تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقل مثل ذلك في مقالة من نفى العلل الشرعية، بل ونفى الأسباب الكونية، فالنار يحدث الإحراق عندها لا بها، فليس فيها قوة الإحراق الذاتية التي خلقها الله، عز وجل، فيها، وإنما هي محض أمارة على وقوع فعل الاحتراق!!!، وذلك أمر ينافي العقل الصريح بل والحس السليم، وإثبات القوى الكامنة في الأسباب لا يستلزم استقلالها بالتأثير، ليحترز بنفيها عن إثبات مؤثر مستقل بالتأثير سوى الباري، عز وجل، فإنه ما من سبب مخلوق إلا وله شريك معاون وضد ممانع، فلا ينتج مسببه إلا باستيفاء شروطه وانتفاء موانعه، فلو شاء الله، عز وجل، لأبطل عمل الشرط، ولو شاء لأنفذ عمل المانع، فبطل عمل السبب، بل لو شاء، جل وعلا، لنزع من السبب قوته الكامنة كما نزع من النار قوة الإحراق فكانت بردا وسلاما على الخليل عليه السلام، وكما نزع قوة القطع من السكين فلم تعمل الذبح في عنق إسماعيل عليه السلام، فلا محظور ليحترز عنه بما تقدم.

يقول ابن أبي العز رحمه الله:

"وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ مُسْتَقِلًّا بِمَطْلُوبٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ انْضِمَامِ أَسْبَابٍ أُخَرَ إليه، وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارِضَاتِ عنه، حتى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، فَكُلُّ سَبَبٍ فله شَرِيكٌ، وله ضِدٌّ، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِنْه شَرِيكُه، وَلَمْ يَنْصَرِفْ عنه ضِدُّه - لَمْ تَحْصُلْ مَشِيئَة.

وَالْمَطَرُ وَحْدَه لَا يُنْبِتُ النَّبَاتَ إِلَّا بِمَا يَنْضَمُّ إليه مِنَ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ الزَّرْعُ لَا يَتِمُّ حتى تُصْرَفَ عنه الْآفَاتُ الْمُفْسِدَة له، وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لَا يُغَذِّي إِلَّا بِمَا جُعِلَ في الْبَدَنِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِنْ لَمْ تُصْرَفْ عنه الْمُفَسِدَاتُ.

وَالْمَخْلُوقُ الذي يُعْطِيكَ أَوْ يَنْصُرُكَ، فَهُوَ - مَعَ أَنَّ الله يَجْعَلُ فيه الْإِرَادَة وَالْقُوَّة وَالْفِعْلَ -: فَلَا يَتِمُّ مَا يَفْعَلُه إِلَّا بِأَسْبَابٍ كثيرة، خَارِجَة عَنْ قُدْرَتِه، تُعَاوِنُه على مَطْلُوبِه، وَلَوْ كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا، وَلَا بُدَّ أَنْ يُصْرَفَ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُتَعَاوِنَة مَا يُعَارِضُهَا وَيُمَانِعُهَا، فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إِلَّا بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ الْمَانِعِ وَكُلُّ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّمَا هُوَ جُزْءٌ مِنَ الْمُقْتَضِي، فَلَيْسَ في الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ مُقْتَضٍ تَامٌّ، وَإِنْ سُمِّي مُقْتَضِيًا، وَسُمِّي سَائِرُ مَا يُعِينُه شُرُوطًا - فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِي. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ في الْمَخْلُوقَاتِ عِلَّة تَامَّة تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا فَهَذَا بَاطِلٌ.

وَمَنْ عَرَفَ هَذَا حَقَّ الْمَعْرِفَة انْفَتَحَ له بَابُ تَوْحِيدِ الله، وَعَلِمَ أنه لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْأَلَ غيره، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْبَدَ غيره، وَلَا يُتَوَكَّلَ على غيره، وَلَا يُرْجَى غيره". اهـ

"شرح العقيدة الطحاوية"، ص353.

ومن مباحث هذا الباب الجليل:

مبحث ورود الشرائع فيما يقع فيه النزاع بين البشر: فإن الشرائع لا تأتي لتقرير مسائل الطبيعيات التي هي محل إجماع بين كل العقلاء، فلا تأتي النبوة بتقرير معامل الجاذبية الأرضية، أو درجة غليان الماء .......... !!! إلخ، فتلك يدركها الحس والعقل بلا حاجة إلى نبوة تقررها، وإن خفيت ابتداء، فإن مآلها إلى الظهور والانكشاف إذا شاء الله، عز وجل، ذلك، فنيوتن لم يبتدع الجاذبية الأرضية فهي سنة كونية موجودة قبل اكتشافه لها، بل قبل أن يخلق أصلا!!. بخلاف الإلهيات فإن خفاء مسائلها وإن أدرك العقل أصولها إجمالا، كما تقدم، خفاء لا زوال له إلا بخبر الوحي الصادق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير