والطبيعيات أمور لا أثر للهوى فيها، فلا يقع النزاع فيها لتأتي الإلهيات بفصله، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، لم تستبح بيضة المسلمين في بلاد الأفغان والعراق لاختلافها معهم في تحديد معامل الجاذبية الأرضية!!!، وإنما استباحت منهم ما استباحت لوقوع النزاع في أمور لا تفصلها إلا النبوات من: أخبار إلهية وأحكام شرعية تنظم العلاقة بين العبد والرب من جهة، وبين العبد والعبد من جهة أخرى، وإلا فما سر وقوف الغرب بكل صرامة في وجه أي حركة إسلامية إصلاحية تسعى إلى تحكيم الشرع المنزل، وتوحيد الشرق المسلم المشتت تحت راية النبوة الخاتمة، ورفع راية الجهاد المعطل، فتلك أمور يحدث فيها النزاع، إذ الحق والباطل لا يتصالحان وإن تهادنا، فلا بد من وقوع الصراع بينهما، فمخطئ من ظن بأن أحداث 11 سبتمبر هي سبب تلك الهجمة الصليبية الشرسة على الشرق المسلم، فما هي إلا حجة قدمها من قدمها للغرب النصراني ليحتج بها على استباحة بيضة الإسلام، ولو لم تقع لما عجز القوم عن إيجاد حجة أخرى.
والصراع إنما يزداد ضراروة في العلاقات الثنائية بين الأفراد والجماعات، بخلاف الصراع في العلاقات بين الرب والعبد، ولذلك لا تجد العلمانية متحفزة ضد الشعائر التعبدية تحفزها ضد الأحكام العملية المتعدية، فهي تريد إسلاما مدجنا، إسلاما فرديا قاصرا على الشعائر، بل بعض العلماتيات المتطرفة تتحفز ضد أي مظهر إسلامي، ولو كان فرديا لازما كالحجاب، بل والصلاة في بعض الدول الإسلامية التي يطارد فيها المصلون!!!.
ومن مسائله أيضا:
تشدق العقلانيين بنبذ التقليد، فحرية البحث مكفولة لكل عقل، ولو كان فاسدا يعارض الوحي المعصوم بأقيسة مختلة ومصالح متوهمة ألغاها الشارع، عز وجل، فأبى ذلك المختل إلا اعتبارها، كالتسوية بين الجنسين في الميراث بحجة عدم جرح مشاعر الأنثى، فتلك عنده مصلحة معتبرة، وإن ألغاها الشارع، عز وجل، بالنص الصحيح الصريح على عدم التسوية بين الجنسين فرعا عن عدم التسوية بينهما في الواجبات، فالحقوق بقدر الواجبات، فلكل حق يتناسب مع ما كلف به من واجبات، وليس الذكر كالأنثى في الواجبات ليتساويا في الحقوق.
الشاهد أنهم يتشدقون بنبذ التقليد، وإذا رأيت جل تقريراتهم وجدتها من باب: تسليم المتأخر للمتقدم، فهي محض تقليد، فحقيقة أمرهم أنهم عدلوا عن تقليد الوحي المعصوم إلى تقليد فلان وفلان من البشر ذوي العقول الحائرة، فعدل الفلاسفة الإسلاميون ومن لف لفهم عن تقليد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الإلهيات إلى تقليد أرسطو وأفلاطون وشيعتهما من فلاسفة اليونان!!!، فعليهم يصدق قوله تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ). ولو عدلوا عن التقليد في الطبيعيات ما توجه اللوم إليهم على وزان: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)، فلا إشكال في كون فلان وفلان من المبرمجين في العصر الحاضر أعلم من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدقائق البرمجيات وأنظمة تشغيل الحاسبات، وإنما الإشكال أن يكون ذلك مرقاة إلى تقديم قول من علا كعبه في الطبيعيات في أمور الإلهيات، لمجرد أنه اكتشف جينا جديدا أو صمم نظام تشغيل جديد، وهي أمور، كما تقدم، لا يقع النزاع فيها، فليس للنبوة فيها عمل أصلا، كما أنه ليس للعقل المبحر في عالم الطبيعيات عمل في الإلهيات إلا التسليم والانقياد، والنظر في علم النبوة نظر المستدل المفتقر لا المقرر المستغني بما عنده ابتداء، فنظره نظر استعلاء وفرح بما عنده، كنظر سائر العلمانيين في العصر الحاضر ممن فتن بمنجزات المدنية الأوروبية الحديثة، فصار مدار الأمر عنده على من: يمتلك صواريخ أحدث، وأنظمة تشغيل أسرع!!!، فذلك كاف في الحكم على طريقته في العلم والعمل والأخلاق والسياسة بالصحة، وإن كان شاذا يضاجع البهائم العجماوات!!!!.
وكانت تلك الخدعة هي سبب ضلال من ضل من المستغربين المعاصرين، إذ نجحت مؤسسات الغرب في خداعهم باسم الموضوعية ونبذ التقليد، فنقلوهم من تقليد الوحي المعصوم إلى تقليد المستشرق فلان، فصارت طريقة القوم: سرقة زبالات أذهان الغرب، وتقديمه لأمة الشرق على أنه بحث فكري مستقل، وهو في حقيقته ذيل تابع لمن سود الصحائف بحروفه وكلماته، فما هي إلا شبه بالية يتلقاها الخلف عن السلف.
وعميد الأدب العربي يفتن بمارجليوس، المستشرق الإنجليزي اليهودي، فيقدم إنتاجه في قضية انتحال الشعر الجاهلي إلى أمة الإسلام مشككا في تراثها العريق باسم الموضوعية والبحث العلمي، ولسان حاله:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ******* لآت بما لم تستطعه الأوائل
وما مقالته عند التحقيق إلا شعبة من مقالة رينيه ديكارت في الشك المطلق، الذي اقتبسها هو الآخر من الإمام أبي حامد الغزالي، رحمه الله، في مرحلة من مراحل اضطرابه الفكري، فليته هو الآخر أتى بشيء من كيسه، وقضية التشكيك في سند المنقولات ليست هي الأخرى من كيس مارجليوس، فما هو إلى لص ثان سطا على ضلالات المعتزلة ومن لف لفهم في التشكيك في سند النقل الذي عارضوه بعقولهم، فهي سلسلة من اللصوص الفكريين تنتهي بضلالات سواء أكانت عن سوء قصد كضلالات المعتزلة، أم كانت زلة كشك أبي حامد رحمه الله.
فأي الفريقين أحق بالأمن: فريق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو فريق ديكارت ومارجليوس!!!.
والله أعلى وأعلم.
ملاحظة: أصل هذه التعليقات مستفاد من شرح الشيخ صالح آل الشيخ، حفظه الله وسدده، للعقيدة الطحاوية، وهو شرح رأيته لأول مرة هذا العام في معرض الكتاب الأخير، طبعة دار ابن الجوزي، فلعله جديد أو لعلي غافل فتأخرت معرفتي به، وفيه من الفوائد ما يجعل الناظر فيه يحرص على اقتنائه، فجزى الله الشيخ عنا خير الجزاء ونفعنا بعلمه.