ليس لأحد أن يُغيِّر أو يبدل في هذا المنهج، ولا أن يُحسِّن القبيح، ويقبح ما حسنته الشريعة (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (يونس:15)، ما قيمة أن تكسب الدنيا وتخسر ربك ودينك وآخرتك فركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها؟!
وما قيمة أن تقيم المسلات والأهرامات، وتنشئ المصانع والمتاحف، وتعيش في القصور حياة الملوك، ثم تَرد على ربك غداً مفلساً؟! (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) (الفرقان:23)، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النور:39).
نحن لا نعتبر ما أقامه الفراعنة، والبابليون، والآشوريون، وما يقيمه الغرب الآن حضارة، وإن أطلق وصف الحضارة على ما صنعوه فلابد من تقييده بأنها حضارات عفنة مادية؛ وذلك لأنها على غير أساس العبودية لله -جلّ وعلا-.
فنظام السخرة وتعبيد المصريين للفرعون، وادعاء الربوبية والألوهية، وأن الدماء الزرقاء تجري في عروق الفرعون ... مسائل ما تحتمل الإهمال وغض الطرف، والانبهار في المقابل بإنشاء الأهرامات، والكلام على عظمة الحضارة الفرعونية!!
لقد انتقل قوم نوح، وعاد، وثمود، والفراعنة إلى ربهم غير مأسوف عليهم (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِين) (القصص:55)، وقال -سبحانه-: (فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ) (العنكبوت:40).
خذوا الدرس، واحذروا الزيف؛ فالشرع لا يفرق بين المتساويين، ولا يساوي بين المختلفين، ولا داعي للغناء على الأطلال والآثار، ولا تتشبهوا بالهلكى؛ فـ (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) رواه أبو داود، وصححه الألباني، و (لا يحب رجل قوما إلا حشر معهم) رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وقال الألباني: صحيح لغيره، بل (لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) متفق عليه، أي من جرَّاء كفرهم وضلالهم، وهذا يفسر لك لعنة الفراعنة التي جهلها البعض، وحاول طمسها آخرون!!
لقد أمرنا الشرع أن نقيم حضارة على منهاج النبوة، وأن نعمر الدنيا بطاعة الله، وأن نأخذ بأسباب القوة كائنة ما كانت، ولا مانع عندنا من أخذ الزراعة، والصناعة، والهندسة، والطب، وسائر العلوم النافعة من كل من أفلح فيها، أما علوم الهداية فلا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة، والأخذ بأسباب التطور والتحضر والتقدم عندنا لا يتنافى، ولا يتعارض مع التمسك بشرع الله جملة وتفصيلاً، عقيدة وأخلاقاً.
فركوب الطائرة والصاروخ، وإنشاء المدرسة، والمصنع، والتكنولوجية العصرية، وصنع القنبلة النووية لا يقبل معه الاستخفاف بالشعائر أو الشرائع، بل هو يتم عندنا مع إطلاق اللحية، وتقصير الثوب، وارتداء المرأة الحجاب.
فلن نتوارى خجلاً من إظهار ديننا، ولا بطح على رؤوسنا حتى إن كنا في القرن المائة، قال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)، أي: أسد وأعدل في كل ناحية من نواحي الحياة.
وقال -سبحانه وتعالى-: (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة:63)، وفي الحديث: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) رواه أحمد، وصححه الألباني، و (الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ) رواه مسلم.
والصناعة، والهندسة، والزراعة، والطب كلها من فروض الكفاية التي يُتقرب إلى الله بإقامتها، لقد سادت هذه الأمة الدنيا بأسرها، وامتلكت قصور كسرى وقيصر، بل ونقلت أوروبا عنها الكثير من العلم المادي التجريبي.
¥