قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (الحياء من الرب تبارك وتعالى أن يستعان على معاصيه بنعمه وأن لا يبارز بالعظائم و قال أيضا أما الحياء: فيبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات وأحسن من ذلك: أن يكون الباعث عليه وازع الحب فيترك معصيته محبة له) مدارج السالكين (2/ 164)
قال أيضا رحمه الله: ومقام الحياء جامع لمقام المعرفة والمراقبة. مدارج السالكين
وقال الخواص: إن العباد عملوا على أربع منازل، على الخوف والرجاء والتعظيم والحياء، فأرفعها منزلة الحياء لما أيقنوا أن الله يراهم على كل حال قالوا: سواء علينا رأيناه أو رآنا، وكان الحاجز لهم عن معاصيه الحياء منه.
وقال صالح بن عبد القدوس:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ((())) ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك وإنما ((())) يدل على فعل الكريم حياؤه
أما الحياء من المخلوقين، فيكون بكف الأذى عن ظلمهم، و ترك الجهر بالمعاصي على مرأى و مسمع وجوههم، و هذا هو الأجمل للستر، و من ستر نفسه ستره الله كأنه قد غفر له، و من فضح نفسه فضحه الله، كأنه قد مكر به، فمن كان حيائه ساخنا بحمرة الخجل، كان إلى الستر أقرب، و بمغفرة الله أجدر، فغلبة الحياء خير و قهر البذاء شر، و الحياء مروءة سمحة و من كمل حياؤه كملت مروءته و حسنت، و صان نفسه عن دناءة المنظر، و شين القول من الناظر و شماتته، و بذلك تكون عدالته واجبة، و أخوته حقة و وقاره دائم و محبته نافعة.
قال بعض الشعراء:
وجهٌ عليه من الحياء سكينةٌ ((())) ومحبةٌ تجري مع الأنفاسِ
وإذا أحب الله يوماً عبده ((())) ألقى عليه محبّة للناس
و يكون الحياء أيضا من النفس، و ذلك بزجرها و تأديبها، و تربيتها حق التربية، و التعهد الحسن بتزكيتها، حتى يصير سرها كالعلانية، قال بعض الأدباء: من عمل في السر عملا يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قدر.
و هذا حياء ذو مقام رفيع، و إن وجد فهو أبلغ الحياء، و صاحبه ذو كمال في خصال الخير، و فضله عال، و ذكره بالقول محمود، و إنزاله بمنزل الكرماء مطلوب.
قال بعض الشعراء:
وقال الجود بعد الحلم حسبي ((())) حياءً إن شيمتك الحياء
فنعمَ الحصنُ إن طلعت خطوبٌ ((())) ونعم القطبُ إن دارَ الثناء
و حكي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا، فتنكَّب الطريق عن الناس، و قال: لا خير فيمن لا يستحي من الناس
و قال آخر: حياء المرء ستره.
و مع هذا كله فلا تكن من الذين يستحيون من الناس دون نفسه وربه:
قال كعب: استحيوا من الله في سرائركم كما تسحيون من الناس في علانيتكم.
و قيل: من يستحي من الناس ولا يستحي من نفسه فلا قدر لنفسه عنده.
قال بعض الشعراء:
يعيش المرء ما استحيا بخير ((())) ويبقى العودُ ما بقيَ اللحاءُ
فلا وأبيك ما في العيش خيرٌ ((())) ولا الدُّنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبةَ الليالي ((())) ولم تستحي فافعل ما تشاء
و أجمل الحياء و أكمله أن تعلم أن الله تعالى حيي كريم يستحيي من عباده المؤمنين إذا ما دعوه متضرعين رافعين أكف الدعاء بطلب الرحمة و المغفرة و ما يكون منه سبحانه إلا الحلم و الإستجابة و كشف الضر و إنزال القطر.
قال النبي صلى الله عليه و سلم: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفرا أو قال خائبتين) صحيح ابن ماجه: 3131
قال عز و جل: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما).
قال العلامة الأصولي النحرير محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
من فوائد الآية: إثبات الحياء لله عز وجل؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما).
فوجه الدلالة: أن نفي الاستحياء عن الله في هذه الحال دليل على ثبوته فيما يقابلها؛ وقد جاء ذلك صريحا في السنة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا)؛ و الحياء المثبت لله ليس كحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق انكسار لما يدهم الإنسان ويعجز عن مقاومته؛ فتجده ينكسر، ولا يتكلم، أو لا يفعل الشيء الذي يستحيا منه؛ وهو صفة ضعف ونقص إذا حصل في غير محله.
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته (2/ 80):
وهو الحييُّ فليسَ يفضحُ عبده ((())) عندَ التجاهُرِ منهُ بالعصيانِ
لكنَّهُ يُلقِي عليه سِترهُ ((())) فَهُو السِّتِّيرُ وصاحب الغفرانِ
قال الهرَّاس رحمه الله: (وحياؤه تعالى وصف يليق به، ليس كحياء المخلوقين، الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه؛ فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه وأضعفه لديه، ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الرب سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه يستحي من هتك ستره وفضيحته، فيستره بما يهيؤه له من أسباب الستر، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر) اهـ
قلت: و هو صفة كمال و تعظيم و رحمة من الله عز و جل، و تحقيق ثبوت التسمية فيه من النفس شيء، هذا لأن مجال الإخبار أوسع، أما التسمي فمقيد بقواعد أهل العلم و قد جاء فيها ما هو محل بحث و سؤال، فاللهم اجعلنا من أهل الحياء و الكرم و هب لنا من الأخلاق أحاسنها و اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب و صل اللهم و سلم على نبيك محمد و على آله و صحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
كتبه محمد أبو يوسف غفر الله له و لوالديه و للمسلمين آمين