[وجوه ترجيح أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الأحاديث، للشيخ حمد العثمان]
ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[27 - 10 - 08, 10:03 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وبعد:
فقد صدر مؤخرًا كتاب (المحرر في مصطلح الحديث)، تأليف: حمد بن إبراهيم العثمان، وقد ضمّنه بحثين محكّمين، أحدهما بحث (وجوه ترجيح أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الأحاديث)، فرأيتُ نسخه لإفادة الإخوة بما فيه، وجعلتُ هوامش البحث بين معقوفين بخط صغير، وصححت شيئًا يسيرًا في أصل البحث، وجعلته بين معقوفين، وما جعله الشيخ بالخط الأسود العريض في الكتاب؛ جعلته باللون الأحمر.
* * *
وقد قال المؤلف في مقدمة كتابه (ص7): ( ... وفيما يتعلق بعلم الحديث؛ استفدت كثيرًا من فضيلة الشيخ إبراهيم اللاحم -وفقه الله-، والذي قام بمراجعة وجوه ترجيح أحكام المتقدمين على المتأخرين في علل الأحاديث من هذا الكتاب).
وبعد أن عقد باب المعلل، وذكر بعض أجناس العلل الخفية، ونبّه على فضل المتقدمين في نقد الأحاديث وبيان عللها= قال (ص308 - 348):
وجوه ترجيح أحكام المتقدمين:
لا بد هنا من بيان بعض أسباب قوة الحدس عند المتقدمين، لأن معرفة ذلك مما يوجب التشبث بأحكام المتقدمين، وأن تقع تصحيحاتهم في القلوب موقعها، بخلاف من يعظم في نفسه حكم المتأخر، وإذا ذُكر له حكم المتقدم أخّره، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فالأسباب كثيرة، ولكن أمهاتها ترجع إلى ما يلي:
الأول: التقدم:
فهذه اللفظة بمجردها تعني الكثير، فالمتأخرون خلف المتقدمين، والسلف أعلم وأحكم.
والمتقدمون أتقى لله ممن خَلَفهم، والتقوى سبب العلم، وما زال العلم في نقص.
قال الشاطبي -رحمه الله- (ت: 790هـ): «فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن» [الموافقات (1/ 97)].
والحافظ السخاوي -رحمه الله- (ت: 902هـ) لما ذكر طبقات العلماء الذين تكلموا في الرجال بدأ بالصحابة حتى انتهى إلى طبقة شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم قال: «وآخرون من كل عصر ممن عدَّل وجرَّح، ووهَّن وصحَّح.
والأقدمون أقرب إلى الاستقامة، وأبعد من الملامة ممن تأخر، وما خفي أكثر» [الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، بواسطة (ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل) عناية د. عبدالفتاح أبو غدة ص129].
ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[27 - 10 - 08, 10:04 م]ـ
ثانيًا: علو الإسناد:
خصوصية أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الإسناد معلومة، فكما أن هذه خصوصية لنا بين سائر الملل، فكذلك خصوصية علو الإسناد للمتقدمين بالنسبة لمن تأخر عنهم.
فنزول الإسناد يوعِّر الطريق على المتأخرين، وعلو الإسناد يقرِّب الطريق ويوضحه، وييسر الوقوف على مواطن الخلل منه.
قال ابن الملقن -رحمه الله- (ت: 804هـ): «كلما طال السند كثر البحث عن أحوال الرجال» [الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (2/ 543)].
فالصحابي يُشافه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم يُشافهه فإنه يأخذ عن صحابي آخر شافه النبي-صلى الله عليه وسلم- وعاين الواقعة وشهدها، ولذلك مرسل الصحابي حجة، لندرة أخذ الصحابة عن التابعين الضعفاء أو عدمه.
لذلك قال أبو عبدالله محمد بن عمر بن رُشيد الفهري -رحمه الله- (ت: 721هـ): «فإن اعترضت أيها الإمام بإمكان احتمال الإرسال عن تابعي إذ يحتمل أن يكون الصحابي رواه عن تابعي عن صحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن أرسله، قلنا: نادر بعيد، فلا عبرة به.
وغاية ما قدر عليه الحفاظ المعتنون أن يُبرزوا من ذلك أمثلة نَزْرة تجري مجرى المُلَح في المذاكرات والنوادر في النوادي» [السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن ص120، 121. مجموع ما ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- من تلك الروايات في كتابه (نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين) ثمان وثلاثون، وقال في النكت (2/ 570): «وقد تتبعت روايات الصحابة -رضي الله عنهم- عن التابعين، وليس فيها من رواية صحابي عن تابعي ضعيف في الأحكام شيء يثبت، فهذا يدل على ندور أخذهم عمن يضعف من التابعين»].
والتابعي يُشافه الصحابة، وكبار التابعين رواياتهم أنقى، وإذا أرسل التابعي تُوُقِّف في مرسله حتى تظهر الواسطة، فما ظنك برواية تابع التابعي؟! فكيف إذا نزل الإسناد، فإن الحال حينئذ أصعب وأخفى.
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ): «فأوائلهم كان لهم شيخ عالي الإسناد، بينه وبين الله واحد معصوم عن معصوم سيد البشر عن جبريل عن الله -عز وجل-، فطلبه مثل أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبي هريرة الحافظ، وابن عباس، وسادة الناس الذين طالت أعمارهم، وعلا سندهم، وانتصبوا للرواية الرفيعة، فحمل عنهم مثل مسروق، وابن المسيب، والحسن البصري، والشعبي، وعروة، وأشباههم من أصحاب الحديث، وأرباب الرواية والدراية، والصدق والعبادة، والإتقان والزهادة، الذين من طلبتهم مثل الزهري، وقتادة، والأعمش، وابن جحادة، وأيوب، وابن عون.
وأولئك السادة الذين أخذ عنهم الأوزاعي، والثوري، ومعمر، والحمادان، وزائدة، ومالك، والليث، وخلق سواهم من أشياخ ابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهدي، ويحيى بن آدم، والشافعي، والقعنبي، وعدة من أعلام الحديث الذين خلفهم، مثل أحمد بن حنبل، وإسحاق، وابن المديني، ويحيى بن معين، وأبي خثيمة، وابن نمير، وأبي كريب، وبندار، وما يليهم من مشيخة البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، ومحمد بن نصر، وصالح جزرة، وابن خزيمة، وخلائق ممن كان في الزمن الواحد منهم ألوف من الحفاظ ونقلة العلم الشريف» [زغل العلم ص31، 32].
ولأجل هذا اعترف المتأخرون بأنهم مقلدة للمتقدمين في علل الأحاديث بسبب التأخر والنزول، فقال أبو الفرج علي بن عبدالرحمن ابن الجوزي -رحمه الله- (ت: 597هـ): «وقد كان قدماء العلماء يعرفون صحيح المنقول من سقيمه، ومعلوله من سليمه، ثم يستخرجون حكمه ويستنبطون علمه، ثم طالت طرق البحث من بعدهم فقلدوهم فيما نقلوا» [مقدمة الموضوعات (1/ 31)].
¥