إذا عاب إخوانَ الرجال حرارةٌ ... هذا عن الشطر الأول.
أما عن الشطر الثاني وهو قوله:
فأنت الحلال الحلو، والبارد العذبُ
فلا وجه في رأيي لكلمة (الحلال) وإنما هو الزلال، لتصير كل الأوصاف جارية على الماء أي أنت الماء الزلال الحلو البارد العذب.
وفي موضع الشاهد الذي اختاره ابن هشام أعني قوله:
وتأخذُه عندَ المَكارمِ هِزَّةٌ ****كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
علق عليه ابن هشام فقال:
(ثم أعجبني جداً تشبيهه لهذه الهزة باهتزاز الغصن الرطب عندما يهزه البارح من الهواء. فتخيلت ذلك الغصن الرطب في تلك الشجرة المورقة الخضراء من الهواء العليل،)
وأقول لأستاذنا الفاضل: البارح هو الريح الحارة الشديدة في الصيف وأصل مادة (البرح) يدل على الشدة فإذا فسرنا البارح بالريح فهي الشديدة التي تحمل معها الغبار في الصيف وليست العليلة، ولا يتجه عندي أن يقال: اهتز الغصن تحت الهواء العليل، فالظرف (تحت) يدل على أن ثمة شيء فوق الغصن، لذلك أظن أن في البيت أيضا تحريفا وصوابه:
كما اهتز تحت الصادح الغصن الرطب
والصادح هو الطير المغرد كما ورد في أحد الأبيات التي أوردتها المستبدة:
فإني إذا هبت شمالا سألتها **** هل ازداد صُدّاحُ النُمَيْرة من قرب
فالصداح هو جمع صادح وهو المصوت من الطير كما شرحه الأعلم الشنتمري في شرح حماسة أبي تمام.
واهتزاز الغصن تحت الصادح يوحي بوجود النسيم العليل كما قال ابن الرومي عن الريح العليلة:
هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه **** سّرا بها وتنادى الطير إعلانا
وُرق تغنى على خضر مهدلة **** تسمو بها وتشمّ الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب **** والغصن من هزه عطفيه نشوانا
أرجو أن يكون فيما قدمته بعض الفائدة لأهل الأدب بيد أني سررت كثيرا بوقوعي على شاهد نحوي عزيز جدا وهو ما ذكره ابن هشام من قول أبي العلاء الغنوي:
وماذا عليكمْ إِنْ أَطافَ بِأَرْضِكُمْ***** مُطالِبُ دَيْنٍ أَو نَفَتْهُ حُروبُ
فجملة (نفته حروب) صفة لموصوف محذوف أي: مطالب دين أو رجل نفته حروب
والنحويون يأبون أن تقوم جملة الصفة مقام الموصوف المحذوف في الاختيار ويشترطون لجواز ذلك أن يكون الموصوف بعض ما قبله من مجرور بـ (من) كقول الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما **** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي: فتارة منهما أموت فيها، فحذف الموصوف تارة وأقيمت جملة (منهما أموت فيها) مقامه.
أو مجرور بفي كقول الراجز:
لو قلت ما في قومها لم تيثم ***** يفضلها في حسب وميثم
أي: لو قلتَ ما في قومها امرأة يفضلها لم تأثم، فحذف الموصوف وهو (امرأة) وأقيمت جملة (يفضلها في قومها) مقام الموصوف.
وفي بيتنا نابت جملة الصفة عن الموصوف دون أن يكون الموصوف بعض ما قبله من مجرور بمن أو مجرور بفي.
فمثل هذا الشاهد يعض عليه بالنواجذ فجزى الله ابن هشام عن أهل الأدب والنحو خيرا.
مع تحيات أخيكم الأغر.
ـ[ابن هشام]ــــــــ[15 - 04 - 2005, 08:57 م]ـ
أخي العزيز الأستاذ الأغر وفقه الله وزاده علماً وفقهاً سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحيا الله هذه العقلية البصيرة، التي لا تكتفي بالمرور مر الكرام على كلامٍ كثير الخلل ككلامي، بل تأبى إلا الوقوف والتأمل في تأملات عقل كليل، لترده إلى الجادة، وتعلمه كيف يتأمل شعر الشعراء. وكنت وما أزال أؤمن بأن من يقومك، ويقفك على مواطن الخلل في كلامك وفهمك، أنفع لك ممن يزجي لك الثناء العاطر، مع شكري الجزيل لكل من كلَّفَ نفسَهُ عناءَ التعقيبِ والمشاركة في هذه التأملات الأدبية.
وعُذري أيها الأخ الكريم في الأخطاء التي وقعتُ فيها سابقاً، وسأقع فيها لاحقاً أنني لا أرجع للمصادر للتدبر والتأمل والتحقق إلا في القليل، وهذا خطأٌ مني ولا عذر لي، إذ إنني أردتها تأملات عفوية أختبر بها فهمي، وأصحح بها نظري للشعر، ثم يكون في التعقبات ما يصحح الخطأ، وقد منَّ الله عليَّ بأمثالكم ممن يحرصون على العلم والأدب، ويصححون الخطأ الذي أَقَعُ فيه، فيكون في ذلك فائدة مضاعفة كما كان في تعقيبكم الثمين أيها الأستاذ الأغر.
¥