وقد كنت كتبت أولى هذه التأملات بعد النظر في الأبيات في عيون الأخبار لا غير، فشرعت في الكتابة مباشرةً دون مراجعةٍ للأبيات في مصدرٍ آخر، واكتفيت بذلك ولم أعد إليها بعد ذلك. فلما رأيتُ ما كتبته وفقك الله، حفزني هذا لمراجعة هذه الأبيات في المصادر الأخرى، فعثرت عليها في ديوان الحماسةِ، وفي الكامل للمبرد، وفي الحماسة البصرية، وفي الأمالي للقالي، وفي بَهجةِ المَجالس لابن عبدالبَر رحِمه الله، وفي المصدر الذي أخذت منه ابتداء وهو عيون الأخبار وفي سمط اللآلي.
وأخذت أتتبع ما قاله شراح الحماسة في هذه الأبيات كالمرزوقي، والتبريزي وغيرهم. فكان في هذا التعقيب الذي تفضلتم به فوائد لا حرمك الله أجرها وبرها أيها الأستاذ الأغر ومنها:
أولاً: أشعرتني بقيمة ما كتبتهُ حول هذه الأبيات، وحفزتني حفزاً شديداً حتى شددتُ جَراميزي، واحتشدت وتَحفزَّتُ لقراءة هذه الأبيات مرةً بعد مرةٍ، والرجوع إلى كلام العلماء حولها فكان في ذلك فوائد كثيرة لا حرمك الله أجرها وسأذكر بعضها مع الاعتذار عن سوء الترتيب، وتداخل الكلام بعضه ببعض:
[ line]
ثانياً: عرفت في طريقي قائلَ هذه الأبيات الذي لم يذكره ابن قتيبة، فإذا به أبو الشغب العبسي واسمه عِكْرشَة بن أزيد بن أسحل، وهو من شعراء الدولة الأموية (انظر: وفيات الأعيان 1/ 170)، يقول هذه الأبيات في ولده رباط -فليست في الإخوان كما ذكر ابن قتيبة وحذف البيت الأول منها -، وقال البصري صاحب الحماسة 2/ 466: وتروى للأقرع بن معاذ العامري. قال ابن هشام: والذي نسبها للأقرع هو أبو عبيدة معمر بن المثنى رحمه الله.
[ line]
ثالثاً: كما قلتُ: وجدتُ هذه الأبيات في ديوان الحماسةِ ص 84 ورقمها (77)، وفي شرح التبريزي للحماسة 1/ 144 - 145، وفي الكامل للمبرد 1/ 245 بتحقيق الدكتور محمد الدالي (ط. مؤسسة الرسالة)، وفي الحماسة البصرية (بتحقيق الدكتور عادل جمال) 2/ 466، وفي الأمالي للقالي 2/ 3، وفي بَهجةِ المَجالس لابن عبدالبَر2/ 775، وفي المصدر الذي أخذت منه ابتداء وهو عيون الأخبار.
[ line]
رابعاً: سعدتُ بقول المرزوقي في شرح الأبيات: وقوله: (تحت البارح). حَسَنٌ جداً». فأسعدني استحسان المرزوقي لنفس المعنى الذي استحسنته، وقد كتبت ذلك استناداً إلى ما أزعمه من تذوقي للمعاني في الشعر فالحمد لله أن وافقت في ذلك إماماً كبيراً كالمرزوقي. وجزى الله الأغر خيراً الذي دفعني للبحث والتفتيش. وموافقة الكبار نعمة يعتدها طالب العلم الصغير مثلي، لأن التفرد موحش.
[ line]
خامساً: وقوفك مع قول الشاعر: إذا كان إخوان الرجال حرارةً. دليل على حسن تذوقك، وبصرك بكلام العرب وفقك الله. وكلامك صحيحٌ نور الله بصيرتك، وليهنك العلم. ولم أقف عندها كوقوفك.
فأما رواية الأبيات عند ابن قتيبة فهي كما نقلتُ (حرارةٌ). وأما عند المُبَرِّدُ فرواية البيت (إذا كان أولادُ الرجالِ مرارةٌ) ورواية البيت في حماسة أبي تمام، والحماسة البصرية، ورواية من روايات الكامل كما أشار المحقق:
إذا كان أولاد الرجال حَزَازَةٌوقد شرح الأبيات على هذه الرواية شراح الحماسة كالتبريزي والمرزوقي. ومعانيها على كل رواية كالتالي:
على الرواية الأولى التي بنيت نقلتها من عيون الأخبار يكون المعنى: إذا كان أولاد – لا إخوان كما ذكر ابن قتيبة رحمه الله لأن الشاعر قالها في ولده رباط والأبيات ينقصها الأول وهي كاملة:
رأيت رباطاً حين تم شبابه* وولى شبابي ليس في بره عتبُ
إذا كان أولاد الرجال مرارةً* فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
البيتان ..
فيكون وصفه للولد العاق بالحرارة معناهُ، وعورةُ أخلاقه، ويُبوستُها وزعارتُها. والوصف بالحرارة فيه هذه المعاني التي ذكرتُها وزيادةٌ.
وعلى الرواية الثانية: إذا كان أولاد الرجال مرارةً، فهي قريبة من الأولى، مع زيادة الحسرة التي تصيب قلب الوالد من عقوق الولد، والمرارة التي يشعر بها.
¥