وأما الرواية الثالثة وهي التي وردت في حماسة أبي تمام والبصرية وغيرهما فمعناها إذا كان أولاد الرجل تقطيعاً في الصدور وتَحزِيزاً في القلوب، لعقوقهم واستعمالهم الجفاء في موضع البر مع آبائهم. وهي من الحَزِّ وهو القطعُ. وقد شرحه المرزوقي فقال: «إذا كانَ الأولادُ تقطيعاً في الصدور وتَحزيزاً في القلوب، لعقوقهم واستعمالهم الجفاء في موضع البر مع آبائهم، فأنت العسل مشوباً بالماء العذب ... وقال الخليل: الحزازة: وجعٌ في القلب من غيظٍ أو أذًى. والحزاز أيضاً كذلك، وأنشد بيت الشماخ:
وفي الصدر حزازٌ من اللوم حامز».ويبقى لتوجيهكم الكريم وقولكم: «فتشبيه الإخوانِ بالحرارة، أو جعلهم كأَنَّهم مخلوقون من الحرارة _ كقول الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار
أمرٌ غير مُستساغٌ في الذوق إذ لا يتصور مثل هذا المعنى، فالإخوان قد تشوب أخلاقهم بعض الشدة والحرارة ولكن لا يبلغ بهم أن يكونوا مثل الحرارة أ كأنهم مخلوقون من الحرارة، والأشبه عندي أن يكون في البيت تحريف وقد يكون صوابه:
إذا شان إخوانَ الرجال حرارةٌ .... أو:
إذا عاب إخوانَ الرجال حرارةٌ».يبقى له وجاهته، وهو جدير بكل تقدير واحترام، لحسن تدبركم وتأملكم وفقكم الله، والقول فيها كما تقدم، وأمر التذوق والتدبر في الشعر لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً، والفتوى فيه ليست كالفتوى في الدين، فتجوز العلماء فيها من قديم، ولذلك فإن الجمع بين هذه الأقوال التي يمكن فهمها من الأبيات السابقة هو الأولى مع عدم وجود ما يقطع بواحد منها، تربية للذوق، وشحذاً للملكة النقدية.
[ line]
سادساً: وأما قولكم: «أما عن الشطر الثاني وهو قوله:
فأنت الحلال الحلو، والبارد العذبُفلا وجه في رأيي لكلمة (الحلال) وإنما هو الزلال، لتصير كل الأوصاف جاريةً على الماء أي أنت الماءُ الزلال الحلو البارد العذب.) فلا تقل جمالاً عن النقدة الأولى، ولكنني لم أجد من ذهب هذا المذهب. فقد وجدت الروايات مجمعة على لفظة (الحلال)، ووجدت المرزقي يقول في شرحها: «فأنت العسل مشوباً بالماء العذب. وقد وصف بعضهم كلاماً فقال: "هو السحر الحلال، والعذب الزلال". ويشير الشاعر إلى سهولة جانبه، وحسن طاعته، ودماثة خلقه». و وجدت في كلام الشعراء مثل هذا الوصف مثل قول الشاعر مادحاً:
ألا هلكَ الحُلوُ الحَلالُ الحلاحلُ * ومَنْ عَقدهُ حزمٌ وعزمٌ ونائلُوشرحه الأصفهاني فقال: «والحلوُ: الجميلُ، والحَلالُ: الذي ليسَ عليه في مالهِ عيبٌ. والحُلاحِلُ: الشريف العاقل». الأغاني. ووجدت في إحدى رسائل ابن العميد لبعض إخوانه قوله: «ولم تَلْفظني من فِيك، وتمجُّني من حلقكِ؟ وأنا الحلال الحُلْو، والبارد العذب». و: انه قد أخذها من الأبيات السابقة. فالوصف بأن فلان حلال وصف مطروق في الشعر، ولو تتبعها متتبع ربما يجد أكثر من هذا، ولعل من بقايا ذلك في لغة الناس اليوم قولهم (فلان ابن حلال) وإن كان ضدها معنى قبيحاً إلا أنه لا يخطر على بال المتكلم والسامع فيما أظن. وتفسير الحلال بأنه من ليس في ماله عيب، كأنه ضد الحرام معنى إسلامي فيما يبدو لي، ولعلك تنشط أو أنشط للتدبر والبحث في لفظة الحلال أكثر من هذا إن شاء الله.
[ line]
سابعاً: وأما قولكم أخي العزيز: «وفي موضع الشاهد الذي اختاره ابن هشام أعني قوله:
وتأخذُه عندَ المَكارمِ هِزَّةٌ *كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
علق عليه ابن هشام فقال: (ثم أعجبني جداً تشبيهه لهذه الهزة باهتزاز الغصن الرطب عندما يهزه البارح من الهواء، فتخيلت ذلك الغصن الرطب في تلك الشجرة المورقة الخضراء من الهواء العليل). وأقول لأستاذنا الفاضل: البارح هو الريح الحارة الشديدة في الصيف. وأصل مادة (البرح) يدل على الشدة فإذا فسرنا البارح بالريح فهي الشديدة التي تحمل معها الغبار في الصيف وليست العليلة، ولا يتجه عندي أن يقال: اهتز الغصن تحت الهواء العليل، فالظرف (تحت) يدل على أن ثمة شيء فوق الغصن، لذلك أظن أن في البيت أيضا تحريفا وصوابه:
كما اهتز تحت الصادح الغصن الرطب
والصادح هو الطير المغرد كما ورد في أحد الأبيات التي أوردتها المستبدة:
¥