فقد أحسن المعري الاعتذار للمرقش في مخاطبته هند، وهو يعني أَسْماءَ. وقد ألمح إلى ذلك شاعرٌ مُبدعٌ من شعراء العباسيين في أبيات مختارةٍ لعلنا نأتي عليها يوماً في إحدى هذه التأملات إن شاء الله، فلا أتعجل بذكرها إذاً، وإن كانت المناسبة تقتضيها، ولكن لا بأس من التشويق، بذكر البيت وهو قوله:
نسائلُ عن ثُمامات بُحزَوى * وبانُ الرمل يعلم مَن عَنَينا
ولو أنى أنادي يا سُليَمى * لقالوا ما أردتَ سوى لبُيَنَى
فهو ينادي: يا سُليمى!، وهو إنما يقصد لبينى.
وأما قوله:
وقولا لَها: ليسَ الضلالُ أَجارَنا * ولكنَّنا جُرْنَا لِنَلقَاكُمُ عَمْدا
ففيه لطائف منها:
1 - كأنه في قوله هذا لصاحبيه يلقنهم الجواب لسؤال يتوقعه منها وهو: ما الذي جار بكما عن الطريق إلى أرضكما؟ فيكون الجوابُ أَنَّهما لم يضلا ولم يجورا عن الطريق خطأً منهما، وقِلةَ بَصَرٍ بالطريق إلى أرضهم، ولكنهما قصدا قصداً إلى هند ليبلغاها هذا (المسواك) من حبيبها عوف.
2 - أَنَّ العِبْرةَ في الهديَّةِ هي القيمةُ المعنويةُ لها، وإلا فعودُ أراكةٍ لا يَعني من حيث القيمةُ الماديةُ شيئاً يُذكر، ولكنَّ له من المعاني في النفس أَبعادٌ وأبعاد، ولا سيما حين يكون المُهدي حبيباً إلى القلب. وإنْ كان المرقشُ لم يأخذ أولَ عُودٍ وَجَدَهُ، ولكنَّهُ تَخَيَّرَهُ واصطفاه، مِمَّا يوحي بِتَعبهِ في ذلكَ، وأَنَّهُ بَلَغَ غايةَ جهده في ذلك.
3 - أن هذه الهدية من المرقش توحي بتلك الطبيعة الصافية الصادقة في نفوس القدماء، وفي حبهم وهداياهم، فالتكلف مفقود في الحياة العربية في الجاهلية، وكل الصور مأخوذةٌ من البيئةِ، والهَديَّةُ من عود الأراك، ولكن الحب صادق، والمُهدِي وامق، ولو تأملت حالَ المُحبين في زماننا لهالك ما تراه من التكلف، والتصنع، والمبالغة في الهدايا مع ضيق ذات اليد في الغالب، ولا أعمم هذا، ولكن الثقافة السائدة هي هذه، لِمَا جَرَّتهُ وسائلُ الإعلام على الناس من البلاء في هذا الباب، وتصويرها حال العُشَّاقِ بهذا المنظر الرخيص، الذي يجري وراء الحرام من اللقاء والكلام وغير ذلك. وأمر الحب الصادق، والشوق السامي فوق ذلك كله، ولا تستقر حياة الناس إلا بذلك الحب المتبادل بين المُحبين، وأنا عندما أقول العشاق والمُحبين، فإنما أعني الأزواج ومن انعقدت بينهم أسباب الحلال، وأما غيرها فلا يخطر لي على بال، وإن ذهب بعض الناس بكلامي هذا المذهب فمعذرة، وحسبنا الله على من شوه هذه العاطفة الصافية، وكدرها بأغانيه الساقطة، ومشاهده الفاضحة، ونسأل الله لنا ولكم الستر والعفو في الدارين.
قال ابن هشام: وللبيت الأول من هذه الأبيات قصة طريفة، فقد سمعه الخليفة المأمون، فقال: اطلبوا لهذا البيت ثانياً فلم يعرف، وسألَ كُلَّ مَن بِحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد.
فقال إسحاق بن حميد: لما رأيت ذلك عُنِيتُ بِهذا الشعر، وجهدت في المسألة، وطلبته ببغداد عند كلِّ مُتأدبٍ، وذي معرفةٍ فلم يعرفه. وقَلَّدَ المأمونُ أَبا الرازي كُورَ دِجلةَ وأَنا أكتب له، ثُمَّ نقله إلى اليمامة والبحرين.
قال إسحاق ابن حميد: فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي على حِمارةٍ، فابتدأ الحادي يحدو بقصيدةٍ طويلةٍ، وإذا البيت الذي كنت أطلبه، فسألته عنها فذكر أنها للمرقش الأكبر ... قال: فكتبَ بِها إلى المأمون فاستُحسِنَت ورويت. (انظر: الأغاني للأصفهاني 11/ 350 ط. دار الكتب المصرية)
ـ[ابن هشام]ــــــــ[17 - 12 - 2005, 12:11 م]ـ
الأخ الكريم البلاتين: شكراً لك هذه الكلمات الطيبة.
الأخت الكريمة معالي: ليتك تفعلين وتدلين بدلوك، وكلنا طلاب في هذا المقام.
ـ[د. خالد الشبل]ــــــــ[18 - 12 - 2005, 09:40 ص]ـ
ذوقوا الثمارَ جَنِيَّةً ... ورِدُوا المَناهِلَ صافِيَهْ
ـ[ابن هشام]ــــــــ[19 - 12 - 2005, 01:04 م]ـ
وهذه الأبيات الثلاثة الأخيرة للمرقش، بصوت الأستاذ الجليل أبي فهر محمود محمد شاكر، اقتطعتها من أحد دروسه التي ألقاها في الرياض عام 1396هـ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وكانت تلك الدروس عن الشعر الجاهلي. أحببت إضافتها زيادة في إمتاعكم، وربما لم يسمع أحدكم من قبل صوت محمود شاكر وهو يلقي الشعر، ولا سيما القديم منه.
http://www.free-hoster.cc/users/ibnhisham/hind.ram
أو
http://www.free-hoster.cc/users/ibnhisham/hind.ram
ـ[معالي]ــــــــ[20 - 12 - 2005, 07:44 م]ـ
أستاذنا الكريم ابن هشام ..
سعدتُ كثيرًا بعودة الحياة إلى هذا الموضوع الأثير ..
فجزاك الله خيرا ..
الأخت الكريمة معالي: ليتك تفعلين وتدلين بدلوك، وكلنا طلاب في هذا المقام.
لا يُفتى أيها الفاضل ومالك في المدينة!
ولكن علّي بإذن الله أفعلها يومًا ما ..
أما عن الملف الصوتي فلم يعمل معي، وكذلك الشأن مع الرابط!
فلو راجعته بارك الله فيك وجزاك خيرا
¥