أما أنا فلم أقف هذا الموقف ولله الحمد وأسأل الله ألا أقفه ولا أحد منكم. لكنني رأيتُ كثيراً عن قربٍ من يقف هذا الموقف، يقوم بعد الصلاة فيسأل الناس المساعدة، فمنهم من يتصدق عليه بالقليل، ومنهم من يَعْبُرُه ولا يلتفت إليه. ياله من موقف ثقيل على النفوس الأبيَّة! وأنا لا أتحدث إلا عن النفوس الأبية التي تأنف الوقوف مثل هذا الموقف، أما بعض الذين استمرأوا السؤال فلم يعد لوجوههم ماء يراق فلا شأن لنا بهم.
وأذكر رجلاً مسناً قام يوماً بعد الصلاة، ثم أراد الكلام فخنقته العبرة فلم يقدر على الكلام فجلس، فلما كلمه بعضهم بعد ذلك، قال: لم أقف هذا الموقف في حياتي، فلما وقفتُ لم أستطع سؤال الناس، فأنا طيلة حياتي لم أحتج للناس، واليوم دفعني الفقر والحاجة أن أحاول سؤال الناس فلم أقدر على ذلك!
وأذكر من الكلمات الجميلة يوماً وأنا أستمع في سيارتي لبرنامج (نور على الدرب) وإذا بسائلٍ يسأل المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ وفقه الله: هل نعطي من يقوم بعد الصلاة يسأل الناس ولو كان كاذباً؟ فقال: نعم أعطه، فلم يكلفنا الله التقصي عن كل مسكين يسأل الصدقة. فقال: ولكنه قد يأخذ مالاً كثيراً بهذه الطريقة؟ فقال له كلمة أعجبتي حيث قال: مهما أعطيته فلن يكون ثمناً لما أراقه من ماء وجهه أمام الناس! وصدق وفقه الله.
وهذا في السؤال الذي لا ينوي صاحبه الرد، وقد حدثني أحد أصدقائي يوماً أنه ذهب إلى أحد من كان يتوسم فيه مد يد العون له في ضائقة مرت به، فقصده طالباً قرضاً حسناً إلى أجلٍ مسمى، فأعرض عنه ولم يجبه بشيء، قال صاحبي: والله إن مرارة ذلك السؤال لا تزال تتردد في نفسي كلما تذكرت الموقف أو رأيت ذلك الرجل.
الشاعر يمدحهم بأن السائل الذي يأتيهم لا يتكلف مرارة موقف السؤال بين أيديهم، وإنما يكفى هم السؤال بقضاء حاجته بين البيوت قبل بلوغها. فهو يجد من خدمهم ومواليهم من العطاء والكرم ما يقيه موقف السؤال وذلته. وقد جعل الكرم مجسداً حتى أنك تبصره وتراه بين بيوتهم، فكيف بالبيوت نفسها التي يسكنها هؤلاء الكرام.
ومعنى كفاية مرارة موقف السؤال معنى بديع تناوله بعض الشعراء في شعرهم، ويحضرني منهم قول الشاعر أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني = حياؤكَ إِنَّ شيمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليكَ المرءُ يوماً= كفاهُ مِنْ تعرُّضِهِ الحياءُ
وقول المتنبي:
وفي النفس حاجات وفيك فطانةٌ = سكوتي بيانٌ عندها وخطابُ
وهذا من فطنة أهل الكرم ونبلهم، ومن أنفة أهل الحاجات وكرم نفوسهم.
3 - أما البيت الثالث:
نُورُ النُّبوةِ والمكارمِ فيهمُ= مُتوقِّدٌ في الشِّيبِ والأَطْفالِ
فهو مديح رائع بأن هذه الصفات من المجد والكرم ليس حكراً على أفراد منهم، أو الكبار منهم فقط أو الموسرين منهم فقط. وإنما هو صفة مشتركة بين الصغير والكبير فيهم، وقد أحسن الشاعرُ أيما إحسان عندما ربط هذه المعاني الرائعة من الكرم والمجد والسؤدد بنور النبوة في سيدنا ونبينا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام. فإن بني هاشم على فضلهم وعلو نسبهم، ما كان لهم أن يبلغوا هذه المكانة في نفوسنا إلا لشرف النبوة الذي خص الله به نبينا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم عليه الصلاة والسلام. وهذا والله الشرف الحقيقي والمجد المؤثل، وحق لآل بيت نبينا محمد بن عبدالله الحب والتقدير والموالاة في الله ولله ولقرابتهم من المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا حق فرَّطنا فيه كثيراً في زماننا هذا عفا الله عنا، حتى ذهب بدعوى محبة آل البيت هؤلاء الرافضة الكاذبون ونحن أهل الإسلام أولى بآل البيت منهم والله الموعد.
ـ[الأديب اللبيب]ــــــــ[10 - 12 - 2008, 05:01 م]ـ
ما أروعك أستاذي الفاضل، فلله درك.
ـ[أم أسامة]ــــــــ[10 - 12 - 2008, 05:25 م]ـ
ما أروع ما قرأت في هذه النافذة ..
بوركت أستاذي الكريم .. ابن هشام
ـ[البلاتين]ــــــــ[10 - 12 - 2008, 05:51 م]ـ
أستمتع بهذه التأملات العفوية كما وصفها ابن هشام، وأجد فيها روحاً تنعشني، وقد راجعتها للتو في كتاب زهر الآداب حقاً للحصري 1/ 94 وقرأتها، ولكن لم أجد فيها هذه الروح التي نفثها فيها أديبنا ابن هشام، وهنا لب التذوق وتحسس مواطن الجمال في الشعر العربي، وعلاقة الذوق الأدبي بالقدرة على إيصال هذه المعاني الرائعة للقراء.
دمت موفقاً يا ابن هشام، زادك الله علماً وبياناً، وثق أننا ننتظر البيت التاسع قريباً فلا تبخل به وقد لمستَ انتفاعنا بما تكتب رعاك الله.
ـ[د. سليمان خاطر]ــــــــ[10 - 12 - 2008, 06:00 م]ـ
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله * ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب.
ولو أني أعطيت كل بلاغة * وأفنيت بحر القول في النظم والنثر
لما كنت بعد الكل إلا مقصرا * ومعترفا بالعجز عن واجب الشكر
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة * أوفى من الشكر عند الله في الثمن
أخلصتها لك من قلبي مهذبة * حذوا على نحو ما أوليت من حسن
¥