"اتهام القبور باغتيال النجوم! ياله من معنى مطربٍ لشاعر قاضٍ."
يبدو أنّ حروفي ستنطلق من هنا ..
"ومن تلك الأبيات التي أتذكرها الآن قول المتنبي وإن كان متأخراً عن محارب بسنين يرثي أحدهم:
ما كُنتُ أَحسَبُ قَبلَ دَفنِكَ في الثَرى
أَنَّ الكَواكِبَ في التُرابِ تَغورُ"
لا أدري ... لكن إن جاء ذكر المتنبي هنا،أو في تحليلٍ لقصيد غيره من الشعراء ستظلم حروفي قائد البيت السادس (محارب بن دثار) وستحمل الكلمات معها رؤية وتذوقا لأحمد .. :)
لكننا هنا وفي حضرة ابن هشام،وربما لن يغفر لمن يحوّر الحديث! قلت (ربما)
أعود للبيت:
يا لَهْفَ نفسيْ، ولهفَ الواجدينَ مَعيْ
على النُّجُومِ التي تَغتالُها الحُفَرُ
في الحقيقة هذا البيت يصافح الوجدان إذ أنّه مبنيّ على رقيق الكلم،وجميل النظم.ليس نظما بل شعرا ينساب بعذوبة لصدق موقفٍ عاشه الشاعر.فأرى أن الأبيات والقصائد متى ما كان انتثارها بصدق وشفافية يلونها إبداع فطري من الشاعر،كلما كان وقعها أبلغ وأقوى في نفوس المتلقين .. فالحادثة الصادقة القوية،تعكس تأثيرا قويا في نفس صاحبها،ثم ينعكس هذا الصدق في صدق أبيات بديعة،إن صحبها شاعر مبدع،ثم ستجد نتيجة هذا كله في نفس متلقي هذا القصيد. ستصل بقوة،ستصل بصدق،ستبني حميمية وجماليّة بين الشاعر والمتلقي،حميمية لأنها صدرت من موقف صادق،وجماليّة لبديع مبدعها ..
نعود ...
إن هذا البيت صافحني بصدق .. شعرت بحميمية تجاهه،لم يتكلّف طرق بابا ليدخل ..
يقول:
يا لَهْفَ نفسيْ، ولهفَ الواجدينَ مَعيْ
بدأ بيته بشطرٍ رقيق .. ألفاظه تثير شيئا في العاطفة .. فـ (يا لهف نفسي) جملة اقترنت بالتعبير عن الأحزان الموجعة:
تقول الخنساء: دهنتني الحادثات به فأمستْ
عليّ همومها تغدو وتسري
........
فلا والله لا أنساك حتى
أفارق مهجتي ويشقَّ رَمسي
فقد ودّعت يوم فراق صخر
أبي حسان لذّاتي وأُنسي
والشاهد:
فيا لهفي عليه،ولهف أمي
أيصبح في الضريح وفيه يمسي
فالشعراء المجيدون يتعاملون مع اللغة تعاملا خاصا، مستميزا عن غيره،فيوظفون الألفاظ التي تعبّر عن أفكارهم ومشاعرهم .. والتي تنسجم مع رثائياتهم .. توظيفا يعبر بقصيدهم العاديّة والمطروق المنهوك إلى فضاءات أبدع وأبلغ،لذا نجد مشاعرنا تميل مع بعضها دون الآخر،دون حول منا ولا قوة .. وما ذاك إلا لحسن صنيع إبداعهم.
لنعد:
تكرار الكلمة (يا لهف) ثمّ تلاحق بـ (ولهف) يؤدي غرضٌ في ذاته،إن تحققت كيفيّة التوظيف البديعة.،فجمال التكرار ليس بالكم بقدر ما هو بكيفيّته التي تقفز بالجميل منها قفزات المبدعين حين يتخيّر تكرار لفظه،متى وأين يكون.
ثمّ إن هذا الشطر ــ أراه ــ كان تقديما للشطر الثاني .. الذي جاء يحمل من بديع الصور ثراءً ..
بمثابة الإناء الجميل الذي يحمل لك حلوى لذيذة الشكل والطعم (وإن كان المقام هنا ـ يا مستبدّة ــ للحزن وليس للأكل:) أتدرون أن في كثير من حروفنا التي نقول (والحديث هنا عن الأدب وتحليل صوره البلاغيّة) روابط قويّة مع ما يفكر فيه عقلنا الباطن،بمعنى إن كنت جائعا مثلا ولم تتناول فطورك فلن تبتعد عن تصوير المستبدّة هنا:) طبعا حديثي مقنن،والعذر هنا كل العذر لـ مُحاربُ بن دِثارٍ فأين المقام وأين المقال؟ ــ)
نعود:
أجد أن صدر البيت كان تقديما لعجزه .. إنك حين تقرأ:
يا لَهْفَ نفسيْ، ولهفَ الواجدينَ مَعيْ
لا تلبث بحثا عن الشطر الثاني الذي يحمل ولو وصفا عن المفقود ..
على النُّجُومِ التي تَغتالُها الحُفَرُ
فلقد هيّأ المستمع برقةٍ من النظم ثمّ أردف بهذه الصورة التي لن أثريها بأكثر مما كان من الأفاضل ..
يقول ابن هشام:
"رابعاً:تأملوا تسميته للقبور بالحفر، وكأني بالشاعر يرمي من وراء تسميته للقبور بالحفر التهوين من شأنها وأنها رغم ذلك استطاعت احتواء هذه النجوم. "
نعم صحيح .. إن في ذلك لجودة.
ويقول أستاذنا:
"خامساً: من يقرأ في دواوين الشعراء يجد المديح غالباً عليها، وفي غالبه مديح مبالغ فيه في حق من لا يستحق."
هذا صحيح .. ولعلنا (نحن جميعا ممن يقرأ) نفرد ما يتحدث عن مثل هذا في موضوع مستقل .. (لقد كثرت "لعلّ" فعسى ربي أن يعين على الوفاء ... )
أما:
(((كلما نظرتُ في كتب الأدب ودواوينه، اتسعت أمام ناظري مساحة عمل الأديب الجاد رواية ودراية، ومدى المسؤولية الملقاة على عاتق كل متعلق من أدب العربية بسبب لتقريبه للناس، وتحبيبه لهم.
فليت أحد الإخوة الأدباء يطرح موضوعاً مستقلاً في كيفية تقريب الأدب للناس، وما هي أدوات هذا التقريب، كالأشرطة المسجلة مثلاً كأشرطة من القائل لابن خميس، وأشرطة قول على قول لحسن بن سعيد الكرمي، وهل هناك مجال لإقامة دورات أدبية في قراءة كتب الأدب الكبار كأمالي القالي وبهجة المجالس ودواوين الشعراء الكبار كالأعشى وزهير والمتنبي وأبي تمام وأمثالهم.
هذه أفكار متناثرة أطرحها على علاتها، حتى يستثمرها أديب أريب منكم فيتبناها ويطرحها في هيئة متكاملة ينتفع بها الجميع.
ربِّ وفقني فلا أَعدِلَ عَنْ * سَنَنِ الساعينَ في خير سَنَنْ"))
أشدّ على يديك أن تتقدم،وتقود .. فلكم نحن بحاجة لمثل هذا .. ننتظرك ابن هشام هنا في الأدب .. لننطلق لزاوية جديدة تضم بين دفتيها مثل هذا الطرح الثريّ ..
ابدأ ونحن معك ...
¥