تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي رواية (عرس الزين) يتمثل الأثر الصوفي الديني في شخصية الحنين وبصورة ما في شخصية الزين. الحنين يملك كل مقومات شخصية الولي الصالح: التقوى، والغموض الذي يحيط به، والحكايات والأقوال التي يتناقلها الناس عنه. تصفه الرواية بأنه كان رجلا صالحا منقطغا للعبادة. يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم، ثم يحمل إبريقه ومصلاته ويضرب مصعدا في الصحراء. ويغيب ستة أشهر ثم يعود ولا يدري أحد أين ذهب. ولكن الناس يتناقلون قصصاً غريبة عنه: يحلف أحدهم أنه رآه في مروي في وقت معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده في كرمه في ذلك الوقت نفسه. وبين البلدين مسيرة ستة أيام. ويحيط الغموض بحياته أيضا: لا أحد يدري ماذا يأكل وماذا يشرب. فهو لا يحمل زادا في أسفاره الطويلة.

ويسيطر الحنين سيطرة روحية كاملة على أحداث الرواية، إذ يظهر فجأة من حيث لا يعلم أحد في لحظة حرجة وخطيرة كاد فيها الزين الإنسان البسيط المهذار، أن يزهق روح سيف الدين، بعد أن فشلت محاولات ستة رجال أشداء في فك قبضته الجبارة. وبكلمة هادئة واحدة استطاع الحنين أن ينقذ سيف الدين من موت محقق ويحمي الزين من ارتكاب جريمة لم يكن يدرك مغبتها. ومنذ تلك اللحظة يتغير كل شيء في القرية: سيف الدين الفاسق الفاجر الذي عق والديه، وعجزت القرية عن إصلاحه، يتحول بعد أن رأى الموت بعينيه إلى إنسان صالح متدين. يصف هذه التجربة بقوله بأنه مات بالفعل، وفي اللحظة التي اشتدت فيها قبضة الزين على حلقه، يقول إنه غاب عن الدنيا البتة. ورأى تمساحا ضخما في حجم الثور الكبير فاتحا فمه. وانطبق فكا التمساح عليه، وجاءت موجة كبيرة كأنها الجبل فألقت بالتمساح في هوة سحيقة ليس لها قرار.

والزين، ذلك الأبله الساذج في نظر القرية، الذي تنبأ له الحنين في تلك اللحظة بأنه سيتزوج أجمل فتاة في البلد، يتزوج بالفعل الفتاة التي كان يتطلع إليها رجال يعدون في ميزان أهل الدنيا من وجهاء القرية، منهم الإمام والناظر.

والقرية التي دعا لها الحنين بالخير، يعمها الرخاء ذلك العام بصورة لا مثيل لها: ترتفع أسعار القطن ارتفاغا مذهلا، وتسمح الحكومة لأهل القرية بزراعته. وفي العام نفسه يقام معسكر للجيش في الصحراء على مقربة من القرية، يحصل على إمداداته من اللحوم والخضر والفواكه والخبز منها. وتقرر الحكومة في ذلك العام تفضيل قرية ود حامد على بقية قرى المنطقة، فتبني فيها مستشفى يتسع لخمسمائة مريض، ومدرسة ثانوية، ومعهدا زراعيا. وتسارع الحكومة إلى تنفيذ مشروع تعاوني ضخم، فتشرف البنايات العالية على القرية، وتدور مضخات المياه بقدره عشرات السواقي. وترتوي الأرض بعد الجفاف وتخضر وتمتد.

ويطلق كل ذلك خيال أهل القرية فيتحدثون في مجالسهم عن معجزات عام الحنين: يقول الثقاة منهم إن الإمام- كأنما كان يقرأ الغيب- قرأ في المسجد مساء ذلك الحادث الآية: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا". ويدعي بعضهم أنه شاهد شهابا منيراً في الأفق الغربي تجاه المقابر في تلك الليلة. ويتواتر في القرية أن الجليد قد سقط لأول مرة في ذاك العام، وأنجبت النساء اللاتي يئسن من الإنجاب، وعم الخصب الأرض والحيوانات. ويسبغ الحنين على الزين قوة روحية بصداقته له وشهادته له بالصلاح، فيشاع في القرية أن الزين ولي من أولياء الله الصالحين، وأنه نبي الله الخضر، أو لعله ملاك أنزله الله في هيكل آدمي زري ليذكر عباده أن القلب الكبير يخفق حتى في الصدر المجوف والسمت المضحك. ويقول آخرون إن الله يضع سره في أضعف خلقه.

وفي هذا الإطار الخرافي الذي يحيط بالزين تدعي أمه بأن الأطفال يبكون حين يولدون إلا هو، انفجر ضاحكا لحظة مولده. وتحكي للناس كيف أن جنا قد هجم عليه من داخل بيت مسكون، فحطم أسنانه كلها إلا واحدة في فكه الأعلى وأخرى في فكه الأسفل. وهكذا يتحول ضعف الزين وتشوهاته بفضل هذه الصلة الروحية إلى قوة تبهر القرية.

ومثل هذه العلاقة الصوفية التي نمت بين الزين والحنين في (عرس الزين)، تلك العلاقة الروحية المتينة بين الشيخ نصر الله ود حبيب وتلميذه بلال في رواية (مريود). يعلمه شيخه الأذان ويقول له: طوبى لمن شهد صلاة الفجر في المسجد على صوتك يا بلال. فوالله إن صوتك ليس من هذه الدنيا، ولكنه نزل من السماء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير