كلما عظم الكرب كانت الاستغاثة بغير الله، أو دعاؤه، أو سمها ما شئت، بزيارة قبره وتسمية الحاجة عنده أشد شركا، وأعظم اجتراءً على مقام الإلهية، ذلك أن الله تعالى يقول واصفًا المشركين الأوائل: {فإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ولها في الكتاب العزيز نظائر كثيرة، فتأمل وصفه المشركين بالإخلاص في الدعاء حال النازلة، ثم إثباته لشركهم حال النجاة، فاحتج عليهم سبحانه بدعائهم إياه حال الشدة والعسر، على بطلان دعائهم غيره حال الرخاء واليسر، والمعنى أنهم يعودون لما نهوا عنه من دعاء الصالحين، وقصدهم بطلب الحوائج مع كون ما يطلبونه منهم مما لا يقدر عليه إلا الله، إما حال حياتهم، وإما لكونه مقدورًا في الأصل في حياتهم ولكنه غير مقدور لأجل موتهم.
فسل نفسك أخي .. هل يكون مخلصا في دعائه من يقول: يا فلان اجلب لي الولد أم يكون مشركا إذ سأل المخلوق ما حقه أن يختص بالخالق"وما أضلنا إلا المجرمون* إذ نسويكم برب العالمين" .. وإذا علمت أنه مامن مشرك قط قال: أنا أعدل غير الله بالله .. علمت معنى التسوية في الآية
رابعا: تفنيد شبهتين مشهورتين عند من يدعون الصالحين:-
اعتاد أهل الزيغ أن يلبسوا الحق بالباطل، فقالوا: إنما نتوجه للصالحين بالطلب لا اعتقادًا باستقلال نفعهم وضرهم، وإنما لمقامهم عند الله، فنتخذهم وسيلة إلى الرب.
والرد على هذا إذا قصدنا استيفاءه مما يطول ولا يسعنا هنا إلا القصر على رد موجز، وهو يأتلف من جزئين:-
1 - بيان أن المشركين كأبي جهل وأضرابه كانوا مقرين بأن الله متفرد بكمال الخلق والتدبير والملك، كما بينه الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]
2 - وبيان أنهم كانوا مع ذلك يدعون غير الله فلم يعتدّ الله باعترافهم لأن فعلهم ناقضه، وحاصله أنهم أثبتوا نفعا جزئيا لمن يدعونهم، فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فرد الله عليهم دعواهم بقوله سبحانه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]
وذلك عين ما يقوله زوار المقامات اليوم، فهم يحتجون تارة باتخاذهم وسيلة وقربى، وتارة بالشفاعة، ولو قدّر جدلا أنه يمكن تصور إنسان يدعو غير الله بلفظه مع جزمه بنفي الضرر والنفع مطلقا عن الأولياء، وادعى أنه إنما يقصد دعاء الله وحده، وأن ذكر اسم الولي من باب التيمن- مثلا- فحسب، فإن صيغة دعائه -وإن على هذا الفرض الخيالي- لابد مورثته تعلقَ الأسباب بهم وهو يؤول للشرك إذن.
وكذلك فإن اعتقاد هؤلاء بأن الصالحين يوصلون حاجاتهم للمولى عز وجل، يجعل همتهم تنصرف إلى تعظيمهم، والغلو فيهم، حتى يرضى هؤلاء عنهم فيقبلوا التوسّط إلى الله! وهذا عين الشرك أيضا.
وأيضا فإن قناعة المستغيثين بهم أنهم غوث كل مكروب يعني أنهم أحاطوا علما بالحاجات الملقاة إليهم في وقت واحد، ولا يكون ذلك إلا للعليم الخبير، فاشتمل فعلهم على الشرك في الألوهية والربوبية معا.
ثم إن دعوى التوسل بهم إلى الله لفضلهم تنقضها الصيغة المبدوءة بـ «يا» التي للنداء، ثم تعقيبها بخطاب المدعو مباشرة بطلب الحاجة التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وبعضهم يتحذلق ويقول: إننا نناديهم ولا ندعوهم! فيقال إن الله قال {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 76].
وتنقضها كذلك واقع الحال، فإن المشاهد لأحوال هؤلاء يدرك أنهم يعتقدون تأثيرا بالنفع والضر يختص بهؤلاء المعظمين عندهم، فمن أنكر ذلك مع إصراره على هذا النداء للأموات كمن يقول: "أعبد الله وحده" أثناء سجوده للصنم، والله المستعان.
الشبهة الثانية: قولهم إن المشركين إنما دعوا أصناما، فالجواب باختصار من وجهين:
¥