تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والواقع أن زاوية السرد هى من العُقَد التى كثيرا ما اضطربت حكاية الأحداث فى يد الراوى بسببها. وقد سقط د. طه حسين فى هذا الخطإ فى روايته: "دعاء الكروان" على ما شرحت ذلك فى كتابى: "فصول من النقد القصصى" لدن تناولى نقد هذه الرواية، وإن كان سقوطه جزئيا لا شاملا كما هو الوضع فى رواية "البشمورى"، التى بين أيدينا الآن. على أنْ ليس هذا أمرا خاصا بالقصص الضعيفة المستوى فحسب كما هو الحال فى قصتنا هذه، بل يمتد ليشمل حتى روائع الأعمال القصصية مثل رواية "مرتفعات وذرنج" لإميلى برونتى، وهى أحد الإبداعات القصصية العالمية الشاهقة، وكذلك قصة "قنديل أم هاشم"، التى تجمع بين الروعة والتهافت فى جديلة واحدة حسبما وضحت فى الفصل الذى درست فيه تلك القصة من كتابى المذكور آنفا.

على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى ما هو أخطر بكثير. خذ مثلا الصورة البشعة التى صورتها الرواية، أو فلنقل: صورتها الكاتبة، للعرب والمسلمين، إذ الرواية فى الواقع لا تصور شيئا، بل الكلام على المجاز، والكاتبة هى التى شوهت صورة العرب والمسلمين، ولم تذكر لهم حسنة واحدة تقريبا، وكأنهم وحوش غير متحضرة لا يعرفون العدل ولا الرحمة، على حين أن الطرف الآخر يتميز يالوداعة والإيمان الطاهر مع أنهم عند المسلمين منحرفون فى إيمانهم بغض النظر عن رأيهم هم فى أنفسهم مما كل واحد من الطرفين حر فيه، إلا أنها وَشَّتْ صورتهم التى رسمتها لهم بالتوشيات الجميلة، حتى إن ثاونا والراوى لا يأتيان شيئا أو يدعانه إلا ويستشهدان عليه بنصوص من الكتاب المقدس عندهم، وبعضها من أعمال الرسل أو رسائل بولس مما لا يمكن حفظه لتعثكل عباراته ومعانيه، فضلا عما نعرفه من أن النصارى لا يحفظون أناجيلهم كما نحفظ نحن قرآننا، اللهم إلا العبارات القصيرة المشهورة جدا، وأين كلام بولس مثلا منه؟

فعلى سبيل المثال هل يصح اختزال عصر المأمون، وهو من أزهى عصور الازدهار الحضارى فى تاريخ العالم، فى تلك المظالم التى ركزت عليها الكاتبة بالباطل؟ أين التفتح الثقافى؟ أين الرواج الاقتصادى والنعمة التى كان يعيش فيها الناس بوجه عام؟ لقد انتقل الراوى إلى بغداد، بل لقد دخل قصر الخلافة يشتغل مساعدا لكبير الطباخين، فلم نر من قصر الخلافة إلا مجلسا للخليفة ترقص فيه امرأة لعوب تثير الشهوات. فهل هذا هو كل ما كان يجرى فى مجلس المأمون، إن كان مجلس المأمون يعرف الراقصات العاريات أصلا؟ ألم يكن هناك علماء يتناقشون فى حضرته ويشاركهم مداولاتهم الفكرية؟ ألم يكن هناك رجال دولة يستشيرهم الخليفة ويتناول معهم شؤون الأمة وكيفية تدبيرها؟ ألم يكن هناك أصحاب شكاوى يلجأون إليه لإنصافهم؟ أليس إلا الراقصات؟ وعلى نفس الشاكلة نجد الرواية تركز فى عصر المعتصم على العيارين والتذمر والفتن وحدها، وكأن الدولة فى عهد ذلك الخليفة العظيم لم تك تحتوى على أى خير (انظر ص350). والله لو لم يكن له من فضل إلا أنه أدب الروم وغزا بلادهم وجعلهم يتلفتون حولهم فى ذعر لكان ذلك حسبه من المجد والفخار والخلود فى صحائف التاريخ المنيرة.

وعن المأمون يقول السير وليم موير المستشرق البريطانى المعروف: "كان حكم المأمون مجيدا عادلا، وكان عصره مزدهرا بأنواع العلوم والفنون والفلسفة. وكان أديبا مولعا بالشعر متمكنا منه ... وكان مجلسه حافلا بالعلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، إذ كان يقربهم إليه ويجزل لهم العطاء. وكما كان عصره عامرا بالعلماء والأدباء والنحاة فإنه كان كذلك حافلا بجماعة المحدِّثين والمؤرخين والفقهاء كالبخارى والواقدى، الذى نحن مدينون له بأوثق السِّيَر عن حياة النبى، والشافعى وابن حنبل. وكان المأمون يجلّ علماء اليهود والنصارى ويحتفى بهم فى مجلسه لا لعلمهم فحسب، بل لثقافتهم فى لغة العرب وحذقهم فى معرفة لغة اليونان وآدابها. ولقد أخرجوا من أديرة سورية وآسيا الصغرى كتبا خَطِّيّة فى الفلسفة والتاريخ وعلم الهندسة لعلماء اليونان وفلاسفتهم، ثم ترجموها إلى العربية بدقة وعناية عظيمة. وبهذه الوسيلة انتقلت علوم العرب إلى العالم الإسلامى. ولم تقتصر جهود هؤلاء الجهابذة على نقل هذه الكتب القديمة إلى اللغة العربية، بل توسعوا وأضافوا إليها ما اكتسبوه من مباحثهم واطلاعهم، وأقاموا مرصدا فى سهل تدمر مجهزا بجميع الآلات التى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير