تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المأمون القرامطة أنفسهم؟ إن هذا، لَعَمْرِى، لزعم غريب غاية الغرابة. بل إنها لتومئ إلى أن الحسين كبير الطباخين فى المطبخ المأمونى كان هو أيضا منهم (ص265 - 266)، وهو ما يبدو أغرب وأغرب، إذ من الصعب على من يشتغل فى قصر الخلافة، ومهنته طباخ ليس له قوة يرتكن إليها وقت الخطر، أن ينتمى إلى جماعة سياسية أو مذهبية تناهض الخليفة الذى يعمل هو طباخا فى قصره تحت سمع رجاله وبصرهم. بل إنها لتجعله يُسِرّ إلى بدير بأمر القرامطة، الذين ينتسب إلى جماعتهم ويتردد على مخابئهم فى بغداد فى الوقت الذى يشتغل فى مطبخ المأمون. ولقد كان بمستطاع الكاتبة أن ترجع إلى كتب التاريخ والتراجم فتعرف عن القرمطية ومؤسسها ما كان كفيلا بعصمتها من الوقوع فى هذا الزلل الدحض، أو كان يمكنها على الأقل أن تقرأ الرواية الشامخة التى كتبها على أحمد باكثير عن هذا الموضوع بعنوان "الثائر الأحمر" فتستفيد منها فنيا ومضمونيا. بيد أنها، لفادح الأسف، لم تفعل هذا ولا ذاك.

ومن التفاوتات التاريخية المسيئة أشد الإساءة إلى الرواية كذلك زَعْم الراوى أنه كان هناك حشيش فى بغداد أيام المأمون، وأن الحسين طباخ قصر الخليفة كان يتعاطاه ويجد فيه أنسا وبهجة (ص277 - 278). الله أكبر! ومتى كان ذلك يا ترى؟ وبأية أمارة؟ أوتظن المؤلفة، وهى المسؤولة فى الحقيقة عن هذا الخلط والاضطراب، أن يكون ثَمّ حشيش فى عصر المأمون ثم يسكت واحد كالجاحظ فلا يكتب رسالة فيه، وهو الذى لم يترك موضوعا من الموضوعات إلا وضع فيه رسالة أو كتابا بما فى ذلك المفاضلة بين النساء والغلمان على غرابة الموضوع؟ بل أتظن أن أبا الفرج الأصفهانى كان ليسكت فلا يتناول هذا الحشيش فى كتاب "الأغانى"، الذى جمع فأوعى ولم يترك شاردة أو واردة فى حياة الشعراء، وبخاصة شعراء العصر العباسى، إلا وأوردها مفصلة دون أى قدر من التحرج، بل بقدر من المبالغة شديد؟ أوكان الفقهاء يسكتون فلا يتكلمون فى هذا الأمر؟ أوكان الشعراء يصمتون صمت القبور، وهم الذين لم يكونوا يعرفون حرجا فى معالجة أى غرض من الأغراض مهما تكن غرابته أو شذوذه؟ فلتذهب إلى مؤلفات ذلك العصر وأشعاره ولترنا كتابا أو رسالة أو قصيدة وضعها صاحبها فى الحشيش إن كان حقا ما يقوله راويها المسكين الذى لا له فى الثور ولا فى الطحين لأن الثور والطحين كليهما لها هى، فهى المسؤولة عنهما تمام المسؤولية.

تعال مثلا نقرأ معا ما كتبه فى هذه المسألة ابن تيمية، الذى وضع رسالة عن الحشيشة ساق فيها ما بلغه من أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكيز خان. وفى رأيه أن هذه "الحشيشة الملعونة"، كما كان يسميها، تورث متعاطيها الخيالات وتضل عقله ودينه وخلقه. وهي، عنده، شر من الخمر لأنها تغيب عقل آكلها فيبقى مسطولاً، وتورث مدمنها التخنث والدياثة والجنون. ولدينا أيضا ممن كتبوا عن الحشيشة تقى الدين المقريزى، الذى نقرأ فى كتابه: "المواعظ والاعتبار" تحت عنوان "حشيشة الفقراء" (أى الصوفية) ما يلى: "قال الحسن بن محمد في كتاب "السوانح الأدبية في مدائح القِنَّبِيّة": سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة، وتعدّيه إلى العوامعامّة، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرًا رحمه الله كان كثير الرياضة والمجاهدة، قليل الاستعمال للغذاء، قد فاق في الزهادة، وبرَّز في العبادة. وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان، ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه. وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية، وفي صحبته جماعة من الفقراء. وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرجمنها ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته. قال: ثم إن الشيخ طلع ذات يوم، وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة، منفردًا بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كنا نعهده منحاله قبل، وأَذِن لأصحابه في الدخول عليه وأخذ يحادثهم. فلما رأينا الشيخ على هذهالحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة سألناه عن ذلك، فقال: بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردًا، فخرجت فوجدتكل شيء من النبات ساكنًا لا يتحرك لعدم الريح وشدّة القيظ، ومررت

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير