وفى الصفحة التسعين بعد المائتين نجد أنفسنا بإزاء تفاوت مشابه مضحك، فالبيتان الجميلان اللذان كانت الجارية المغنية تصدح بهما فى مجلس المأمون هما للشاعر العباسى الخبز أرزى، الذى مات بعد وفاة المأمون بمائة عام على الأقل، إذ توفى عام 317 هـ على أبكر تقدير، على حين مات المأمون عام 218هـ. ومع هذا فإن مؤلفتنا لا تجد حرجا أى حرج فى أن يكون ذانك البيتان موجودين ومشهورين حتى لتتغنى بهما المغنيات فى مجلس الخليفة قبل الهنا بسنة، بل بعقود. والسبب فى هذا هو لامبالاة الكاتبة واقتحامها ميدان الرواية التاريخية، بل الرواية بوجه عام، قبل أن تأخذ عدتها لتلك المهمة الجليلة. وهذه هى المقطوعة كاملة، ويأتى البيتان المذكوران على رأسها:
يا ليل، دُم لي. لا أُريد صباحا * حَسْبِي بوجه مُعانقي مصباحا
حسبي به بدرًا، وحسبي ريقُه * خمرًا، وحسبي خدُّه تُفّاحا
حسبي بمضحكه إذا غازلتُه * مستغنيًا عن كل نجمٍ لاحا
ألبستُه طوقَ الوشاح بساعدي * وجعلت كفي للِّثام وشاحا
هذا هو الفضل العظيم، فخلِّنا * متعانقَيْنِ، فما نريد براحا
لو كان في حرم الإله عناقُنا * ولثامُنا ما كان ذاك جُنَاحا
لو شاء ربّي أن يُعِفَّ عبادُه * ما كان يخلق في الأنام مِلاَحا
(انظر ديوان الخبزرزى، وكتاب "الليل والنهار" لابن فارس بتحقيق حامد الخفاف مجلة "تراثنا"/ عدد 14/ ( http://www.rafed.net/books/turathona/14/t07.html) ص288، وكتاب "المحب والمحبوب والمشموم والمشروب" للسري الرفاء).
ويمكن أن نلحق بهذه القائمة ما لحظته من ضعف معرفة الكاتبة بدينها، إذ هى مثلا تقول عن بدير فى الصفحة الخامسة والخمسين بعد الثلاثمائة إنه صلى التراويح بعد العشاء، رغم أننا لم نكن وقتئذ فى رمضان بدليل أنه كان يأكل ويشرب مما يقدمه له الناس من حوله بالنهار، وليس هناك أى ذكر لرمضان بتاتا. ومعنى ذلك أنها لا تعرف أن التراويح إنما تصلى فى رمضان فقط وليس فى أى وقت، مثلما لا تعرف كيفية التيمم، مع أنها بكل يقين قد درسته فى المدرسة. ذلك أنها تظنه مثل الوضوء، وكل ما هنالك أننا نستعمل فيه التراب بدلا من الماء. وفاتها أننا فى التيمم لا نمسح أقدامنا مثلا ولا نتمضمض أو نستنشق. على أى حال هذه هى عبارة الكاتبة كما كتبتْها بالنص: "جلستُ لأستريح قليلا وتيممت متهيئا لصلاة المغرب، فمسحت يدى بالرمال الطاهرة وكأننى أغسلها، ثم مسحت وجهى وساعدىّ وقدمىّ، وفعلت فعل الوضوء بغير ماء حتى أتطهر وأستعدّ للصلاة" (ص360 - 361).
وهناك خطأ فى آيتين قرآنيتين يمكن القول فيهما إن الكاتبة قد اعتمدت على ذاكرتها فخانتها الذاكرة. لكن من الصعب تماما أن نتجاوز عن إيرادها المثل التالى: "كذب الممنجمون ولو صدقوا" على أنه آية قرآنية (ص336). ذلك أن الأمر يخرج هنا من باب النسيان ليدخل فى باب العبث واللامبالاة. هل يعقل أن تقدم كاتبة على تأليف رواية عن الإسلام وتاريخه وأهم فترة من فترات حضارته وهى تجهل القرآن إلى هذا الحد المخزى؟ ألا تعرف الكاتبة أن هناك شيئا اسمه المصحف يستطيع الواحد منا أن يرجع إليه كى يتحقق من أن ما يقوله هو قرآن فعلا؟ ألم يدر فى خَلَدها على الأقل أن تسأل أحدا ممن يحفظون القرآن عن قرآنية المثل المذكور؟
أذكر بهذه المناسبة ما كان قد حكاه لى أحد أصدقائى المقربين ونحن طلاب بالجامعة عن أخيه الصغير الذى كان وقتئذ فى المرحلة الابتدائية والذى صار بعد ذلك مستشارا قضائيا ملء هدومه من أنه عاد من المدرسة ذات يوم فسألوه: ما الذى حفظتموه اليوم فى الفصل؟ فأجاب فى افتخار وشعور بالأهمية: لقد حفظنا سورة "الهِرّة". فسألوه: طيب! سمّعنا سورة "الهرة". فشرع يرتل وهو يتمايل على عادة التلاميذ الصغار حين يقرأون القرآن: "بسم الله الرحمن الرحيم. دخلت امرأةٌ النار فى هرة حبستها، فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خَشَاش الأرض. صدق الله العظيم". ولم يبق من سلوى بكر إلا أن تقول هى أيضا لنا: لقد حفظنا فى الفصل اليوم سورة "المنجّمون". لكن هذا مقبول من "دِيدِى" كما كانت إحدى أخواته تناديه فيغتاظ من الاسم، أما ممن ليست بـ"ديدى" فهو غير مقبول البتة. فديدى كان طفلا غرا ساذجا لا يعرف كُوعَه من بُوعِه، كما أنه لم يكن يضع فى حسبانه أن يكون كاتبا ولا أديبا، وكاتبتنا امرأة ناضجة قيل عنها إنها واحدة من أكثر
¥