إذا كنا آمنا وصدقنا أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى قد أختاره واصطفاه لتبليغ رسالته والعمل بها فيلزمنا أن نعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول الممتثلين لما جاء به كما قال تعالى:
(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)) سورة الزمر
وقد وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم (4)
وصاحب الخلق العظيم لا يمكن أن يقول ما لا يفعل إلا إذا لم يتمكن من الفعل.
والله سبحانه وتعالى قد خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم والأمة معه فقال:
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)) سورة الضحى
وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم باليتيم فقال:
"أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ إِذَا اتَّقَى وَأَشَارَ بِإِصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ" رواه مالك والبخاري وغيرهما من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.
وقد كفل النبي صلى الله عليه وسلم الأيتام ومنهم عمرو بن سلمة، فقد جاء في الصحيح رضي الله عنه قال:
"كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"
ومن الأيتام الذي كان يرعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ويتفقد أحوالهم أبناء ابن عمه جعفر بن أبي طالب، جاء في الصحيح أنه قال لأمهم أسماء بنت عميس رضي الله عنها:
"مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمْ الْحَاجَةُ قَالَتْ لَا وَلَكِنْ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ قَالَ ارْقِيهِمْ قَالَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ ارْقِيهِمْ" رواه مسلم.
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكفل بجميع أيتام الصحابة كما هو ثابت في الحديث الصحيح:
" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ" رواه البخاري
وهذا وحده كافٍ في بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفل الأيتام والأرامل ويتلمس حاجة المحتاجين من المسلمين ويسعى في قضائها بنفسه ومن ماله أو من خلال حث أصحابه القادرين على فعل ذلك إذا لم يتمكن هو من فعله بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- قال: كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت.
وروى النسائي عن عبد اللّه بن أبي أوفى- رضي اللّه عنهما- قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يكثر الذّكر ويقلّ اللّغو ويطيل الصّلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة.
أما معاملته للسائلين ذوي الحاجة فحدث و لا حرج، جاء في الصحيح:
عن أبي ذرّ- رضي اللّه عنه- قال:
كنت أمشي مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في حرّة المدينة عشاء، استقبلنا أحد فقال: «يا أبا ذرّ ما أحبّ أنّ أحدا ذهبا، تأتي عليّ ليلة أو ثلاث، عندي منه دينار إلّا أرصده لدين، إلّا أن أقول به في عباد اللّه هكذا وهكذا وهكذا» - وأرانا بيده - ثمّ قال: «يا أبا ذرّ» قلت:
لبّيك وسعديك يا رسول اللّه، قال: «الأكثرون هم الأقلّون إلّا من قال هكذا وهكذا» رواه البخاري
وفي الصحيح أيضا من حديث سهل بن سعد قال:
"جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ فَقِيلَ لَهُ نَعَمْ هِيَ الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْسُنِيهَا فَقَالَ نَعَمْ فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا فَقَالَ الرَّجُلُ وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ"
وفي الصحيح أيضا من حديث بن عباس رضي الله عنهما قال:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" رواه البخاري
وهذا غيض من فيض مما روى من خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم، وأرجو أن هذا كافٍ لإزالة الشبهة عن السائلة الكريمة وإن بقي في نفسها شيء فالسؤال شفاء العي.
وسيتبع إن شاء الله تعالى الجواب عن بقية استشكالات السائلة الكريمة.
¥