(قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي السُّنَنِ، مِنْ رِوَايَةِ فَقِيهَيْ الصَّحَابَةِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: " ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَحْفُوظِ: "إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ".
فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ:
1 - إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ،
2 - وَمُنَاصَحَةِ أُولِي الْأَمْرِ،
3 - وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ، وَقَوَاعِدَهُ، وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي لِلَّهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُقُوقَ قِسْمَانِ:
- حَقٌّ لِلَّهِ
- وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ،
فَحَقُّ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَهُ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، كَمَا جَاءَ لَفْظُهُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَهَذَا مَعْنَى إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ.
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: خَاصٌّ، وَعَامٌّ:
- أَمَّا الْخَاصُّ، فَمِثْلُ بِرِّ كُلِّ إنْسَانٍ وَالِدَيْهِ، وَحَقِّ زَوْجَتِهِ وَجَارِهِ؛ فَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَخْلُو عَنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا خَاصَّةٌ فَرْدِيَّةٌ.
- وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْعَامَّةُ فَالنَّاسُ نَوْعَانِ:
- رُعَاةٌ
- وَرَعِيَّةٌ؛
فَحُقُوقُ الرُّعَاةِ مُنَاصَحَتُهُمْ؛ وَحُقُوقُ الرَّعِيَّةِ لُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُمْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ؛ بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ فِي اجْتِمَاعِهِمْ، وَاعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) [مجموع الفتاوى (1/ 18 - 19)]
يجب صياغة خطاب (مصالحة) بين المؤمنين، والكف عن الشجار، والدعوة إلى الوحدة والائتلاف، ونبذ التفرق والاختلاف، على ثلاث مستويات:
الأول: مع أنفسهم: فيكفوا عن التنقير، وتلقط الزلات، وافتعال الخصومات، ويستعيذوا بالله من شرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحذروا من (الشهوة الخفية)، وهي (حب الترؤس)، و (تكثير الأتباع).
ومن لازم ذلك، الكف عن السجال الكلامي، وتدبيج الردود، ذات العناوين المسجوعة، التي تعج بها رفوف المكتبات، وغرف الصوتيات.
ومن لازم ذلك، التلاقي، والتغافر، والتعافي، وتوحيد المواقف، وترتيب الأولويات، وعدم التشاغل بالمتشابهات، والتعاون على إقامة الدين، وعدم التفرق فيه: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13]
الثاني: مع المخالفين، من المشمولين بوصف السنة: بالتناصح، والتعاون على البر والتقوى، والرد إلى الله والرسول في قضايا النزاع، كما أمر الله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].
ومن لازم ذلك، أن ينأى الخطاب السلفي عن المخاشنة، ويتخفف من العبارات الحادة، ويضبط معادلة (القوة في الحق، والرفق بالخلق).
ومن لازم ذلك، أن يميز الخطاب السلفي بين ألوان الطيف، بدقة، ولا يحشر المخالفين في خندق واحد، ولا يستعدي المسالمين، ولا يستكثر من الخصوم.
الثالث: مع الحكومات والأنظمة القائمة: بالتقارب، والتناصح، والانخراط في الهم المجتمعي العام، وعدم الاقتصار على (أجندة) معينة، بل المساهمة مع أجهزة الدولة الحديثة في إصلاح المجتمع، وتقويته، لننهض جميعاً، فنحن من البداية، وحتى النهاية، شركاء في الدين، واللغة، والتاريخ، والجغرافيا. ولا يمكن أن يتم هذا الالتحام المنشود مع بقاء روح الشك، والتربص، بين الطرفين.
ومن لازم ذلك، البعد عن المصادمة، والعمل في وضح النهار، وتجنب تكوين التنظيمات السرية، التي تحمل أولي السلطان على الإيقاع بها، واعتقال أفرادها، وخسران الأمة لمكونٍ مميز من مكوناتها.
ومن لازم ذلك، الصبر على ما يقع من منكرات، ومكروهات، مع دوام بذل النصيحة، والإصلاح، والنظر في عواقب الأمور، ومآلاتها، كما قال شعيب، عليه السلام: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]
قال شيخ الإسلام، ابن تيمية، رحمه الله:
(فَظَهَرَ أَنَّ:
- سَبَبَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ: جَمْعُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ بَاطِنًا، وَظَاهِرًا.
- وَسَبَبُ الْفُرْقَةِ: تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ، وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ.
- وَنَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ: رَحْمَةُ اللَّهِ، وَرِضْوَانُهُ، وَصَلَوَاتُهُ، وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ.
- وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ: عَذَابُ اللَّهِ، وَلَعْنَتُهُ، وَسَوَادُ الْوُجُوهِ، وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ) [مجموع الفتاوى (1/ 17)]
هذا، والله المسؤول، وحده، أن يعز دينه، ويعلي كلمته، وما النصر إلا من عنده، وإليه يرجع الأمر كله، وهو الهادي، وهو المعين. والحمد لله رب العالمين.
كتبه: د. أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان القاضي
عنيزة. 20/ 11/1431