ما ساءني ألمي .. ولكن ساءني ... زفراتُ حُزْنك في الهواء تطيرُ
بالله مهلا .. ما لِقَلْبي أن يرى ... منك المدامعَ في العيون تثورُ
إني أرى دون السحاب بشائراً ... قد أقبلتْ بين الغمام تسيرُ
تلك الملائكُ لا تَسَلْ عن حُسْنها ... جاءتْ ركائبُها بها والحورُ
فكأنهم لِزِفاف روحي قد أتوا ... والحور فوقي كالبدور تدورُ
معهم لِتجْهيزي: ثيابٌ سندسٌ ... ولِغسْلِ دمعي: عنْبرٌ وكفورُ
أبتاه لا تغْفلْ زيارةَ مرقدي ... يوماً لئلاَّ يجزعَ المقبورُ
فأنا الوحيدة رَهْنَ قبرٍ مظلمٍ ... أمسيتُ فيه .. وخاطري مقهورُ
أبتاه قد حلَّ الفراق فليْتنا ... وَافىََ بنا قبل الرحيل: نذيرُ!
*******
وكأني أرى لسان حال أبيها يرد على ابنته ويقول:
فأجبْتُها والدمع يَحْرقُ مُقْلتي ... والقلب ينزفُ والمصاب كبيرُ
بِنْتاه ياروحي ومُقْلةَ ناظري ... وجمالَ نفْسي إنْ عَراهُ فُتورُ
يا بسْمةً كانتْ على الثَّغْر الذي ... ما إنْ بدا فاحتْ هناك عُطورُ
قد كنتِ لي نور الحياة وشمسها ... فغدوتُ أعمى في الظلام يسيرُ
ضحكاتُ فرحُكِ لا تزال تهزُّني ... وتُطيلُ أنَّاتِ الْجَوَىَ وتُثِيرُ
دقَّاتُ قلبُكِ في الفؤاد طوارقٌ ... يصْدعْنَ نفسي والإلهُ خبيرُ
تلك المحاسن في التراب تغيَّبتْ ... وجمالها في قبرها مَدْثورُ
بنتاهُ قد عظم المصاب وإنني ... أبداً على العهد القديم أسيرُ
كأسُ المنيَّةِ قد أصابكِ بغْتةً ... فَشَرَبْتِ ماء الموتِ وهومريرُ
قد كان لا يحلو غيابُكٍ ساعةً ... كيف التَسَلِّي والغيابُ دهورُ
ياليتني قد كنتُ قبلكِ ثاوياً ... حُفَرَ الترابِ فَيَشْتفي المصْدُورُ
ما طاب عيشي في الحياة حبيبتي ... مُذْ غاب بدرُ جمالكِ المستورُ
كبدي يسيل مرارة أبداً وإنْ ... مرَّتْ عليَّ صوارفٌ وعُصورُ
إنْ قيل صبراً .. قلتُ قد غربتْ له ... شمسي وغاب ضياؤها والنورُ
أو قيل رفْقاً .. قلتُ كيف وهذه ... أمواتُ فرْحِي ما لهنَّ نشورُ
فإلى اللِّقاء حبيبتي في عالمٍ ... ما فيه حُزْنٌ بل هناك سرورُ
في جنَّةٍ فيها الأحبَّةُ تلْتقي ... والرَّبُّ راضٍ .. والشَّرابُ طَهُورُ.
وحسبي أن أختم مقالي هذا بطرف من أقوال تلك المرأة المجاهدة الصادقة.
وهي أقوال ينضح منها الإخلاص والعمل والكفاح في أرقى معاني تلكم الكلمات.
1 - قالت هذه الشريفة الصادقة: « ... فما علينا إذنْ لنفوزَ بالجنّةِ والخلودِ في نعيمِها الْمُقيم إلاّ أن نَصْدُقَ الإيمانَ، ونُحْسِنَ العملَ، ونَمْضِيَ على طريق اللهِ، مُنِيبِينَ إليهِ خاشِعين له، مُطْمَئِنِّين كلَّ الاطْمِئْنانِ لعدلِه وحكمِه في كلِّ أمرٍ يُصيبُنا ويقعُ بنا أو من حولنا .. لا نَنْحَرِف عن صراطه المستقيم، ولا نتوقّفُ ولا نُبالي ولو اجتمعتْ علينا قُوَى الأرض!.».
2 - وقالت أيضًا: «اللهمّ إنّا راضونَ راضونَ بقضائك وقدرك، وبكلّ ما يُصيبُنا في سبيلك .. فهل أنتَ راضٍ عَنّا يا ألله!
إذا صَحَّ منكَ الوُدُّ فالكُلُّ هيّنٌ * * * وكلُّ الذي فوقَ التّرابِ تُرابُ!
نعوذُ بنور وجهك الذي أشْرَقَتْ له الظُّلُمات، وصَلَح عليه أمرُ الدّنيا والآخرة، من أن تُنْزِلَ بنا غضبَك، أو يَحُلّ علينا سَخَطُك، لك الْعُتْبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلاّ بك»
3 - وقالت: «كم مرّةٍ تذكّرتُ وأنا أُبْصِرُ ما يَنْزِل بالمسلمين من نَكَبات، وما يُعانونَه من وَيْلات، وما يَتَرَبَّصُ بهم من أخطار ومهالك.
كم مرّةٍ تذكّرتُ وأنا أبصر هذا وأبصر في ذات الوقت غفلتهم، وتَقَطُّعَ وَشائِجِهِمْ، وقِلَّةَ تَناصُرِهم، وانشِغالَ كلَّ فرد أو فريق منهم بنفسه عن غيره، وبيومه عن غده، وبدنياه عن آخرته .. وهم في سِنَتَهِمْ لا يستيقظون على ضَرَبات الدهر، ولا ينتفعون بتجارِبِه ومواعظِه!
كم مرّة تذكّرت وأنا أشهد هذا كلّه قصيدةَ أبي البقاءِ الرُّنْدي الأندلسي:
لِكُلِّ شَيْءٍ إذا ما تَمَّ نُقْصانُ * * * فلا يُغَرَّ بطيبِ الْعَيْشِ إنسانُ»
* * * * *
4 - وقالت أيضًا: « ... كيف لا أكون متفائلة ونور الله يعمر قلبي، ويضيء عيني ودربي, وأنا أحس وأوقن – مهما ضاقت الدنيا واشتدت الظروف - أن الله معنا, يسمعنا ويرانا ... وأن الحق الذي نؤمن به, ونجاهد من أجله, لا بد أن يكون له النصر على الباطل ... وأننا سنفوز – إن صدقنا وصبرنا - بإحدى الحسنيين: النصر أوالجنة.»
5 - وقالتْ وهي صادقة: «يارب إن ضاقت بنا الدنيا فليس لنا سواك.
وإن انسدَّتْ في وجوهنا السبل فليس لنا سواك
وإن ظلمنا الأعداء والأصدقاء فليس لنا سواك
وإن تنكرت لنا كل موجود فليس لنا سواك
يارب الوجود يا ألله
...
يارب إن طالت بنا الغربة فليس لنا سواك
وإن اشتدت بنا الوحشة فليس لنا سواك
وإن فتك بأجسامنا المرض فليس لنا سواك
وإن تنكرت لنا الأرض فليس لنا سواك
يارب السماء والأرض يا ألله
...
في سبيلك وحدك وحدك جاهدنا وعملنا
في سبيلك وحدك وحدك أُخْرجنا وشُرِّدنا
في سبيلك وحدك وحدك عُودِينا وحُورِبْنا
في سبيلك وحدك عشنا
وفي سبيلك وحدك نعيش
وفي سبيلك وحدك نرجو أن تكتب لنا الشهادة يا ألله
...
ليس لنا سواك. ليس لنا سواك
في سرائنا وضرائنا نناديك يا ألله
في شدتنا ورخائنا نناديك يا ألله
فبقوتنا وضعفنا نناديك يا ألله
في كل حال من أحوالنا
في كل وقت من أوقاتنا
نناديك من أعماق قلوبنا
يا ألله يا ألله يا ألله».
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وكتبه العبد الفقير، صاحب العجز والتقصير، الغارق في بحار الخطايا، والمتَجَرِّي على عالِم الظواهر والخفايا، الواثق برحمة ربه الباري: أبو المظفَّر سعيد بن محمد السنّاري .. ذلك الأثيم العاثر .. سامحه الله.
¥