وماذا يهم الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفارًا أم كانت عشرات؟
وماذا ينفع المسافر الذي ودَّع بيته إلى غير عودة, وخلَّف متاعه وأثاثه؟
ماذا ينفع طراز فرش البيت ولونه وشكله؟ ... ).
وكتب زوجها المجاهد عصام العطار يقول:
(وقد بلغت محبّة علي الطنطاوي لي، وثقته بي، وبلغت أُخُوَّتنا وصداقتنا ذروتها العالية عندما اختارني زوجًا لابنته: بنان، وتجاوزَتْ هذه الأخُوّةُ والصّداقةُ كل ذروة من الذُّرَى عندما استشهدت بنان الحبيبة في: 17/ 03/1981م، في مدينة: (آخن) في ألمانيا.
فالتقتْ منه ومني إلى الأبد: جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع، وذكريات بذكريات، ودعواتٌ بدعوات.
ولم تندمل قطّ جراح علي الطنطاوي لفقد بنان، ولم تندمل جراحي، ولم يرقأ دمعه، ولم يرقأ دمعي، ولم يسكت حزنه، ولم يسكت حزني، إلى أن اختاره الله إلى جواره.
[ولقد] كتبَ – يعني علي الطنطاوي - في الحلقة «199» (من ذكرياته)
بعد سنوات من استشهاد ابنته، بمناسبة يوم عيدٍ [فقال]:
«أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلا التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألم المُرّ .. فأنَّىَ لي الآن، وهذا يومُ عيد، أنْ أقوم بهذا الذي كنتُ أراه واجباً عليّ؟
كيف أصِل ُإلى القبريْن الذَّيْن ضمّا أحبَّ اثنين إليّ: أمّي وأبي، وبيني وبينهما ما بين مكّة والشّام!
وكيف أصل إلى القبر الثاوي في مدينة (آخن) في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها؟؟
ما كان يخطر في بالي يوماً أن يكْزِنَ في قائمة مَنْ أزور أجداثَهم: بِنْتي!!
ويا ليتني استطعتُ أن أفديَها بنفسي، وأن أكون أنا المقتولَ دونها؟
وهل في الدّنيا أبٌ لا يفتدي بنفسه بِنْتَه؟ إذن لمُتُّ مرّة واحدة ثم لم أذُق بعدها الموت أبداً!
بينما أنا أموت الآن كل يوم مرّة أو مرّتين، أموت كلّما خطرَتْ ذكراها على قلبي!»
ثم قال عصام العطار عن الشيخ الطنطاوي: (وفي أيّامه الأخيرة، وهو في غرفة العناية المركّزة بين الحضور والغياب، كان يُحِسّ مَن يحفُّون بسريره من بناته وأصهاره وخُلَّصِ إخوانه، أنه يفتقد بينهم شخصًا لا يراه؟
ويُرمز إليهم رمزًا واضحاً إلى بنان، ولا يُسعِفُه اللسان، وارتفعت يدُه لتعانق حفيده «أيمن» ابن بِنْتَه الشهيدة - وقد حضر إليه من ألمانيا - عندما رآه.
ثمّ سقطت اليد الواهنة على السرير، وافْترَّتْ شفتاه عن ابتسامة حزينة سعيدةٍ حلوةٍ، امتزج فيها الحزن والسرور والشكوى، ونطقت عيناه وأسارير وجهه بما لا يُوصف من الحنان والشكر والأسى، مما لا يعبّر عنه – كما قالوا – قلمٌ ولا لغةٌ ولا كلام ... ).
قلت أنا أبو المظفر السناري كاتب هذا المقال:
كلما قرأت هذا الحديث للشيخ الطنطاوي عن ابنته «بنان» أشعر أن الأرض لا تحملني!
وأكاد أُحْصَر عن الكلام وينعقد لساني!
وتعتريني قشعريرة يهتزُّ لها كياني! وينكسر لأجلها أعلام جسماني!
وأحسُّ أن كبدي كأنه يتقطَّع، وأن نِيَاط قلبي كأنها تتمزَّع!
وأن الوجود قد صغر في عيني حتى لا أكاد أرى أحدًا!
وتهون الدنيا في نفسي حتى لا أجد للذيذها حلاوة! ولا لجميلها طلاوة!
ولقد تذكَّرت هذا الحديث – قبل يومين – عند غروب الشمس في ساعة الإفطار، وقد حضر الطعام والشراب، فوالله ما استطعتُ أن أستسيغ لقمة واحدة!
وكأن لا أرى أمامي إلا ظلامًا دامسًا، وقبرًا رامِسًا!
وقد فاضت الدموع كأنها الغيث المِدْرار! وقمتُ عن الطعام وليس في جوفي غير الأسى والمرار!
وما أرى هذا: إلا رحمة يقذف بها الله في قلب من يشاء من عباده.
وقد قال عصام العطار يرثي زوجته:
بنان ياجبهةَ الإسلام دامية * * * مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍ
بنان يا صورة الإخلاص رائعةً * * * ويا منال الفِدَى والنُّبْل والكَرَمِ
عِشْنا شريدَيْن عن أهلٍ وعن وطنٍ * * * ملاحماً من صراع النور والقِيَمِ
الكيد يرصدنا في كل مُنْعطَفٍ * * * والموت يرقبنا في كل مُقْتحمِ
والجرح في الصدر من أعدائنا نَفِذٌ * * * والجرح في الظهر من صُدْقاننا العَدمُ.
* * * * * * * *
###
وكأني لو مُدَّتْ الأنفاس بالمجاهدة «بنان» دقائق معدودات - بعد رميها بالرصاص - لكان لسان حالها يقول لأبيها – بعدما علمتْ بحزنه عليها، ومرضه لغيابها -:
¥