يئست قريش من ثني رسول الله عن المضي في دعوته وتبليغ رسالته وإيصالها إلى قلوب الناس وأسماعهم، وأعيتها الحيل، فأجتمع الذين تولوا كبر الصد عن الدعوة ليقرروا ماذا يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوا أمامهم خيارات ثلاثة: إما حبسه، وإما إخراجه، وإما قتله، فاجتمع رأيهم على الأخير وهو قتله والتخلص منه إلى الأبد، ولكن الله حافظ رسوله صلى الله عليه وسلم ومتم نوره، فنزل جبريل بخبر مكرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له بالخروج من مكة والهجرة إلى المدينة، ولقد سجل القرآن هذه الحادثة في قوله تعالى:
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال:30)
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مراتع الطفولة والشباب، خرج من أحب البقاع إلى الله وإلى قلبه، وألتفت إلى مكة وقال يودعها إلى حين: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلاَ أَنِّى أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فاستبشرت الدنيا بقرب طلوع الفجر، و تبديد الظلام، وسقوط الأصنام الحجرية والبشرية،وتذوق البشرية لمعنى العدل والحرية، استبشرت طيبة ومكة والجزيرة وبلاد الشام والعراق ومصر وإفريقيا والأندلس والقسطنطينية.
لقد كانت الهجرة تتويجاً للنجاح الباهر الذي حققه صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة عشر عاما من التضحية والصبر وتحمل الأذى في مكة.
نعم لقد كان نجاحاً منقطع النظير حيث استطاع صلى الله عليه وسلم أن يقلب الموازين الجائرة، ويغير التصورات والمفاهيم الخاطئة، ويعري الانحرافات العقدية والأخلاقية التي جثمت على صدر الإنسانية قروناً متطاولة.
نعم لقد كان نجاحا والدليل إيمان خديجة ومواقفها النبيلة، وإيمان الصديق وبذله، وتضحية سميه وياسر، وصبر بلال وعمار، وإسلام حمزة وابن الخطاب، وعلي وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وهجرتي الحبشة الأولى والثانية، وبيعتا العقبة، ودخول الإيمان سائر دور الأنصار.
لقد كانت المرحلة المكية تهيئة الدنيا لقبول الإيمان، كانت مرحلة التأسيس لبناء دولة الإسلام، ثم جاءت الهجرة لتكون بمثابة الماء الذي سيروي أصل شجرة الإسلام التي غرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، لتنموا فروعها في طيبه الطيبة، ويمتد ظلالها، وتزهو ثمارها، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على يقين من النجاح، ولقد كان على يقين منذ البداية، واذكروا يوم جاءه المضطهدون والمعذبون ممن آمن به في أحلك أيامهم في مكة يشكون إليه - صلى الله عليه وسلم – ما يلاقون وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، يقولون لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشرفت طيبة الطيبة، المدينة النبوية الدرع الحصينة، بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، يفدونه بأنفسهم وأموالهم وأهليهم، ولكن الطريق لا زالت مليئة بالأشواك، والألم والتضحيات: الجوع، والخوف، والأذى والجراحات، وفقد الأحبة والأصحاب.
ولنذكر كيد يهود، وخذلان المنافقين.
لنذكر يوم أحد، يوم كسرت رباعيته وشج جبينه صلى الله عليه وسلم وفقد عمه حمزة في سبعين من خيرة أصحابه.
¥