تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي، رحمه الله، في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ} قال: "كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلا وأشقاه عَيْشًا، وأجوعه بطونًا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا مكعومين على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّيَ في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قَبِيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم مُنْعِم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله تعالى". اهـ

فما نحن فيه اليوم من تراجع وانحسار، هو في حقيقة الأمر، علم من أعلام النبوة، إذ زالت علة التمكين بنبذ سنة خير المرسلين، فزال حكمه، ولن يرجع الحكم إلا برجوع علته فتلك سنة شرعية لا تحابي أحدا.

ولقائل أن يقول: إن دخول المغلوب من شعوب الدول المفتوحة في دين الغالب أمر غير مستغرب، فدخول غير المسلمين المقهورين في دين المسلمين الغالبين أمر طبيعي، والجواب أن:

التاريخ هو الحكم العدل، أيضا، في ذلك: فإن تلك الشعوب لو كانت مقهورة بسيف الإسلام لسعت في كسره، ولكنها كانت على العكس: مادة الفتح الإسلامي، فالبربر الذين دخلوا في دين الإسلام بعد طول عناد، كانوا مادة الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس، فكان القائد منهم: طارق بن زياد، وكان الرسول منهم، إذ كانت قدم: طريف بن مالك البربري، رحمه الله، أول قدم إسلامية تطا ثرى الأندلس، وكان أغلب الجيش الفاتح منهم، ولم يمض على إسلامهم إلا زمن يسير.

وزد على ذلك أنه رغم انحسار الإسلام في فترات ماضية وحاضة من الناحية السياسية والعسكرية، إلا أنه ظاهر على بقية الملل ظهور حجة وبرهان، فلا يقدر محرف، باعتراف المحققين من أبناء الملل الأخرى ممن عكفوا على علوم الإسلام، لا يقدر على تغيير حرف واحد منه، وإن ظهرت بعض المقالات المحدثة التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، فإنها لا تكون مقالة جمهور المسلمين، بل تبقى محصورة في فئة بعينها تباين الجماعة المسلمة في أصولها، كما هو حال المقالات الحادثة مذ خرج الخوارج زمن عثمان، رضي الله عنه، وإلى يوم الناس هذا، فمعالم الحق ظاهرة، بخلاف بقية الملل التي غلب على أهلها الباطل حتى درس رسم الحق، ومن تأمل ملة أهل الكتابين من قبلنا بعين الإنصاف ظهر له ذلك جليا، فإن القوم لا يستطيعون إثبات صحة مقالتهم بأدلة نقلية وعقلية معتبرة، بل إنهم يفتقرون إلى أهل الإسلام، أصحاب المقالات المحررة الموثقة بشهادة عدوهم، يفتقرون إليهم في إثبات أصول ما هم عليه من دين قبل أن تنالها يد التحريف والتبديل، فهم مختلفون في تحديد أعيان حواريي المسيح عليه السلام، مع كونهم أخص الناس به وأقربهم إليه، والمسلمون في المقابل: يمتلكون تاريخا لرجال كتبهم التي نقلت تراثهم الفكري يتطرق إلى دقائق مسائل الرواية من قبيل: فلان سمع من فلان حديث كذا ولم يسمع حديث كذا، وفلان لقي فلانا ولم يسمع منه، وفلان سمع من فلان قبل اختلاطه فلا تقبل روايته، وفلان سمع من فلان قبل اختلاطه وبعده فيتوقف في روايته ........... إلخ من معايير نقد المرويات التي اعتمدت عليها الدراسات التوثيقية الحديثة، فليست إلا قبسا من نورها.

ومعجزات الأنبياء عليهم السلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل وأعيانهم، لا يوجد نقل صحيح موثق بها إلا من طريق أهل الإسلام، فلمشكك أن يشكك في صحة ذلك من طريق الكتب الأخرى، ولكنه لا يقدر على ذلك من طريق الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن أصول البحث العلمي ترده على عقبيه خاسئا وهو حسير.

ومع هذا الظهور العلمي: اكتسب الإسلام أتباعا جددا زمن الاستضعاف، على خلاف السنة الجارية بدخول المغلوب في دين الغالب، فدخل المغول، في دين الإسلام، مع نوع انحراف غلب عليهم، ولكن مجرد دخولهم في دين الأمة التي قوضوا أركان خلافتها وأبادوا شعوبها، مجرد ذلك: أمر يسترعي الانتباه والتأمل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير