تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن هذه العبارة ظاهرها الأمر الصريح بالشرك: (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) فهي تجعل قيصر شريكاً لله في التوجه إليه بالعمل ومن ينفذها على ظاهرها يقع حتماً في شرك الطاعة والاتباع وهو شرك أعظم، لتنافيه مع توحيد الألوهية، وهذه الدلالة تكفي لنفي صدور العبارة من المسيح عليه السلام، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا لتحذير الجماعة البشرية من الشرك وتنفيرها منه جليلة ودقيقة، فكيف يأمر نبي من أنبياء الله من أولى العزم بالشرك ويدعو إليه بهذه الصورة؟

وهذا في الحقيقة كاف إسقاط حجية العبارة لكننا سنجامل الكنيسة ونجرى مع احتمالها الضعيف جداً مفترضين جدلاً أن المسيح عليه السلام تفوه بما نسب إليه، فهل يعنى ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها ونتخذ من فهمنا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق؟ لنتتبع معها سياق العبارة فقد يعين على فهمها – إن قبلت – على حقيقتها:

يقول متى في إنجيله:

(ذهب الفريسيين وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودوسيين قائلين: يا معلم إنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالى بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا ماذا تظن: أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة: قالوا له: لقيصر: فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا).

كان المسيح عليه السلام وأتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالإمبراطورية الطاغية، وتواجهها بعداوة سافرة، ولم تكن هذه المواجهه مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة – يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد – وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ (كفوا أيديكم) كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها.

هذا المنهج في الدعوة لاحظه الفريسيون – أعدى أعداء المسيح – فسولت لهم أنفسهم الحاقدة أن يدبروا مكيدة للمسيح ودعوته، بحيث تخرج الدعوة عن منهجها ومسارها المقرر وتناوئ الأوضاع القائمة مباشرة وبذلك يجدون طريقة للإيقاع بالمسيح لدى الحاكم الرومانى فكان هذا السؤال الخبيث.

والواقع أنه ليس في استطاعة المسيح – عليه السلام – والقلة المسلمة معه ولا من منهج دعوته أن يرفضوا دفع الجزية للجابي الروماني الذي يجمعها من كل رعايا الإمبراطورية ويدفعها للطاغوت قيصر، ولكن هذا لا يعنى أبداً أن المسيح عليه السلام يقر ذلك الواقع الظالم، ويعترف لقيصر بحق مساواة الله في خلقه ويجعله شريكاً له في ألوهيته كما فهمت الكنيسة.

فالمسيح عليه السلام – لو صحت العبارة – وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع وطبيعة الدعوة المرحلية.

إذا كانت دعوة الأنبياء في جوهرها واحدة، فإن أول فرض للجهاد في الإسلام كان إذناً وليس أمراً: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) وذلك أن القلة المسلمة في مكة كانت تطمع في الثأر لنفسها من الاضطهاد المرير الذي تلقاه من جبابرة مشركي قريش: كأن تغتال بعض المضطهدين مثلاً، او تسلبهم شيئاً من أموالهم وراحتهم، واستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فكان الأمر من الله تعالى بكف اليد ولذلك أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم (إني لم أؤمر بهذا) وذلك كي تظل الدعوة سائرة في منهجها المرسوم لا تستفزها تحركات الأعداء للإيقاع بها وإبادتها في مهدها.

ولو قدر للمسيح عليه السلام أن تبلغ دعوته من القوة ما بلغت الدعوة الإسلامية عند الإذن بالجهاد لأذن لقومه بأن يرفضوا دفع الجزية لقيصر، بل لأمرهم بجهاد الرومان وإشهار عداوتهم.

وبذلك يتضح أنه حتى في حالة ثبوت العبارة فإنها ذات مدلول جزئي مؤقت في مسألة فرعية، ولا يجوز أن يستنبط منه قاعدة أبدية عامة يفضي تطبيقها إلى إهمال شريعة الله، والتخلي عن إقامة دينه في واقع الحياة وإقرار أحكام الطاغوت

". اهـ

"العلمانية"، ص65_68.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير