وهي القوة الحياتية التي تفتقر النصرانية المعاصرة لها، وقد حجبت خلف أسوار الكنائس فصارت رسوما ظاهرة بلا أثر في الحياة، فهي عند التحقيق بما فرضته من زهد غال وآصار ثقيلة، وابتدعته من رهبانية، كارهة للحياة، فلا أمل في دخول الملكوت إلا بتعذيب النفس بأنواع من الرياضات سرى كثير منها إلى متصوفة الإسلام، فصار تعذيب النفس وتقصد المشقة مرادا لذاته، بخلاف شريعة الإسلام التي جاءت بوضع الآصار وإزالة الضرر، وجلب التيسير حال المشقة .... إلأخ فصارت تلك قواعد كلية بنيت عليها الشريعة المحمدية.
واستندت الكنيسة في تقرير هذه النظرة التجريدية المثالية إلى نصوص من قبيل:
"مملكتي ليست من هذا العالم".
يقول صاحب رسالة العلمانية حفظه الله وسدده وأتم شفاءه:
"بقطع النظر عن صحة نسبة هذه العبارة إلى المسيح عليه السلام أو عدمها، نجد أن الكنيسة فهمتها فهماً خاصاً، وجعلت هذا الفهم منهجاً وأصلاً من أصول عقيدتها تقاوم بها الفطرة البشرية والعقل السليم والتطور الإيماني المستقيم.
فهمت الكنيسة من قول المسيح: (مملكتي ليست من هذا العالم) إن كان قالها أن الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان وضدان لا يجتمعان: الدنيا مملكة الشيطان ومحط الشرور والآثام، وعمل الإنسان فيها لتحسين أوضاعه المعاشية ومحاولة تحقيق القسط الملائم من السعادة والرفاهية والتمتع بطيبات وخيرات الكون: كلها أعمال دنسه يمليها الشيطان ليصرف الإنسان عن مملكة المسيح الخالدة (الآخرة) والفقر وشظف العيش – حسب المفهوم الكنسي– هما مفتاح الملكوت الضامن، وتنسب الأناجيل إلى المسيح قوله: (إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله). وبمقتضى ذلك لا يسأل الإنسان الله شيئاً من متاع الدنيا أو خيراتها العاجلة، بل يقتصر على ما طلبه المسيح حسب رواية الأناجيل: (خبزنا كفانا).
والإنسان – حسب هذا المفهوم – يولد موصوماً بالخطيئة الموروثة ويدخل إلى الدنيا دخول المجرم إلى السجن، وكما أن أباه أكل من الشجرة فعوقب بالطرد من الجنة وقضى عليه بالحرمان والنكد، فكذلك إذا تمتع بطيبات الدنيا وملاذها فسيعاقب بحرمانه من نعيم الملكوت.
إذا كان هذا هو حال الدنيا وحال الإنسان فيها ففيم العناء لإصلاح ما وجد بطبيعته فاسداً وما جدوى تقويم ما خلق من أصله معوجاً؟ ليتحكم الجبابرة في الناس وليستعبدوهم وليعبثوا في الكون كما يريدون فسوف يحاسبهم المسيح يوم الدينونة! وليجمع الناس المال ويتمتعوا بالحياة الدنيا ويتزوجوا وينجبوا فسوف يحرمهم ذلك من الدخول في ملكوت الله والفوز في الملأ الأعلى. أما المسيحي الكامل لإيمان. فما له ولهذه الأمور. أليس كل همه الخلاص من هذا المأزق، مأزق وجوده في هذه الأرض في مملكة الشيطان؟
هكذا استخلصت الكنيسة من تلك العبارة وأشباهها مفهوماً سلبياً ضيقاً للحياة الدنيا، وبالتالي لمهمة الدين فيها، يائسة من إمكان إقامتها على الحق والعدل الإلهي، فحرفت المسيحية من عقيدة شاملة ذات منهج رباني كامل نزلت لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف الذي يعيشه الناس وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة إلى نظرة بوذية قاصرة للدنيا، مشفوعة بآمال وأحلام مرتقبة في الآخرة، ورأت أن تنظيم شئون الدولة وتقويم النظم السياسية والاقتصادية وإصلاح الأوضاع الاجتماعية ليس من دينها في شيء لأن مملكة المسيح ليست من هذا العالم". اهـ
"العلمانية"، ص68_70.
وفي تلك النظرة المتشائمة من تحقير وازدراء النوع الإنساني الذي كرمه الله، عز وجل، ما فيه.
ولا زلت ترى مسحة من ذلك التشاؤم إلى يوم الناس هذا في وجوه رهبان البوذية، وقد صار الحزن و: "النكد" كما يقال عندنا في مصر مرادا لذاته!!!.
يقول الدكتور محمد حفظه الله:
"والحق أن هناك وجودا حقيقيا لهذا الخوف من قوة الإسلام العقدية والفكرية والسياسية والتشريعية على حد سواء ................. يقول جولدزيهر: (إن الإسلام قد جعل الدين دنيويا، لقد أراد أن يبني حكما لهذا العالم بوسائل هذا العالم) ". اهـ
نقلا عن: "التطاول الغربي على الثوابت الإسلامية"، ص50.
وتلك تهمة لا ننكرها، ولكن الإسلام لم يرد بناء الحضارة الإنسانية وفق مبادئ أرضية نفعية، وإنما أراد بناءها وفق شرائع سماوية.
&&&&&
¥