والمجموعة الثانية:
الأسباب الفكرية والثقافية:
وهي في حقيقتها صراع آخر بين الإسلام العملي ذي الشريعة الحاكمة، والعلمانية المستترة بثوب أوروبا النصرانية، فإن النصرانية قد سلمت وفتحت حصونها منذ اصطلحت مع قسطنطين على القسمة الثنائية الجائرة: دين بلا سياسة في الكنيسة، وسياسة بلا دين في البرلمان!!!
بينما استعصى الإسلام على التبديل والتحريف، فلم يقدم ما قدمته النصرانية من تنازلات، وإن قدم أتباعه منها ما قدموا، فمهما فرط المفرطون لا بد من قائم لله بحجة.
يقول صاحب رسالة "العلمانية":
"إن الرابط الذي جمع بين الكنيسة والإمبراطور هو رابط المصلحة الدنيوية لكلا الطرفين لا غير، وإن كانت مصلحة الإمبراطور أرجح وتنازله أرخص.
يقول دابر:
" إن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذى لم تكن عقائده الدينية تساوى شيئاً رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين … النصراني الوثني؛ أن يوحدهما ويؤلف بينهما، حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها ".
كما أدرك هذه الحقيقة المؤرخ الإنجليزي (ويلز)، فقد شرح بدقة حال الإمبراطور معللاً اعتناق قسطنطين للمسيحية وإعلانها ديانة رسمية بأنه محاولة منه لإنقاذ إمبراطوريته المتضعضعة من التفكك والإنحلال، وهو ما قال به (جيبون) من قبل.
هذا بالنسبة للإمبراطور، أما الذين اعتنقوا المسيحية من المواطنين الرومان فلم يتغير تصورهم السابق عن الدين ومهمته في الحياة، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى (الأب والابن وروح القدس) محل (جوبيتر ومارس وكورنيوس) فما كانوا ينتظرون من آلهة بولس وكنيسته من تشريع وتوجيه إلا ما ينتظر من آلهتهم الجامدة الشاحبة، ولم يكن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام جوبيتر الذي صوره أبيقور. (الصورة السلبية للإله الذي لا يتدخل في شئون عباده!!!!).
وهكذا لم تستطع الكنيسة بتصورها الفاسد أن تقتلع جذور الوثنية المتغلغلة في أعماق النفس الرومانية، ولا أن تسمو بتلك النفوس من عالم الملذات الجسدية إلى عالم الفضيلة والطهر – باستثناء القلة التي ترهبت – ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله: (إن المسيحية لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة).
وإذ قد عجزت عن ذلك، فمن الطبيعي أن تعجز عن إقامة الحياة: بنظمها وقيمها وأخلاقها على أساس من الدين، وبقي الدين كما كان هواية شخصية محدودة التأثير لم يتغير فيه، إلا أن المراسم الشكلية كانت تؤدى في معابد فأصبحت تؤدى في كنائس. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل أن الكنيسة تزحزحت عن مركز التأثير إلى مركز التأثر، فدخلت الخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية في صلب تعاليمها وطقوسها، وامتزجت بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة، كما حدث امتزاج وتلاقح بين الشريعة والقانون الروماني فأصبحت المسيحية ديانة تركيبية كما وصفها لوبون"
بتصرف من: "العلمانية"، ص61، 62.
وبعد أحداث 11 سبتمبر دعى هنتنجتون صاحب "صراع الحضارات" إلى: "حرب داخل الإسلام، حتى يقبل الإسلام الحداثة الغربية والعلمانية الغربية ......... والمبدأ المسيحي: فصل الدين عن الدولة".
ولو دقق النظر لقال: والمبدأ القسطنطيني: فصل الدين عن الدولة، فليس ذلك من دين المسيح عليه السلام في شيء.
والحرب الحقيقية كما قال "توماس فريدمان": في المدارس.
فأوروبا النصرانية اليوم تغزو العقل الإسلامي محاولة تغيير ثوابته باسم التجديد، وأول وأعظم العقبات في طريقها: عقد الولاء والبراء في قلوب أهل الإيمان الذي يراد حله باسم احترام مشاعر الآخر ولو كان مثلثا يعبد الصلبان!!، مع أن ذلك الآخر لا يحترمنا ولا يرجو لنا ولا لديننا ولا لثوابتنا ولا لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقارا، فعلام المداهنة في دين الله. (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ
¥