أما إذا جاءت أحكامهم مبنية على قواعد الشرع المجمع عليها و بالأدلة الواضحة البينة فلا ينبغي لأمثالنا الحيد عن ذلك لعاطفة جامحة أو تعقل رزين لا يحلل حراما و لا يحرم حلالا و الأفضل من إجلال هؤلاء العلماء هو الأخذ بكلامهم أما الإحترام و التقدير فلا يسوغ رد جهودهم الشامخة في بيان الحق و الدين
ثم قضية اتخاذ الذريعة من طرف أعداء الإسلام لضرب ديننا الحنيف لا تعد حجة لرد الأحكام و تعطيلها
فرضا الغرب من نصارى و يهود غاية لا تدرك، إلا إذا اتبعت ملتهم كما أخبر بذلك رب العزة سبحانه قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) و مع ذلك فقد جاء عن أذكياء القوم و من المنصفين منهم من أكد ما جاء في شرعنا من أحكام بكل رضوخ و إجلال و كان منهم علماء بازين في مختلف العلوم العظيمة كالطب و الفزياء و غيرها أما الحاقدين المجرمين فلا شأن لنا بهم و لعل هذا ليس موضوع بحثنا الآن
أما استشهادي بالآية هو لحكمة يفرضها المنطق:
و ارجع إلى ردي السابق لتفهم الحكمة التي قد يخونني التعبير في إيصالها إليكم
مع كل التقدير و الإجلال ليس هناك حكمة تؤيد قولكم فيما ذهبتم إليه سوى بيان معدنكم الطيب و صدق أخلاقكم الحميدة وهذا غير كاف لتقرير الأحكام و تنزيلها على أرض الواقع
و أيضا لماذا لم يرد تحريم لحم الإنسان الميت صراحة كبقية المحرمات
لا في قرآن و لا حديث؟؟
الآن رجعت لقولي و قلت كلمة صراحة و هذا يعد انصاف حميدا منك فجزاك الله خيرا و جعلك من المنصفين ثم لو تأملت جيدا لعلمت أن المسالة داخلة في مسمى المحرمات و هي الميتة المحرمة و لو دققت مليا في قول ابن عباس رضي الله عنه لعلمت أن الأمر كما قال: إنما ضرب الله هذا المثل للغِيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر
إذن فالمسألة مقرر حرمتها في القرآن و حكمة الإستشهاد واضحة و هذا كله قصد بيان حرمة الفعل أما الضرورات فلها أحكام لمن عرف القواعد و ضبطها جيدا
ثم إذا كان ما تقولونه صحيحا بخصوص أن الحفاظ على النفس ودفع الهلاك أولوية يستطيع الإنسان أن يفعل أي شيء مهما كان إذا اضطر لتحقيقها .. فلا معنى للإيمان إذن!!!
و لكي تفهم قصدي لنضرب مثالا (ولنا في قصة أيوب عليه السلام دليل)
لنفرض أن الله ابتلاك بالشيطان عليه لعنة الله حيث مكنه من الاستحواذ على
جسدك لدرجة أن أصبح قادرا على قتلك و مكنه من الاستحواذ على قلبك
بحيث يمكنه الاطلاع على صدقك من كذبك ثم عمد هذا الشيطان إلى
أمرك بالكفر و طالبك بأن تشرح بالكفر صدرا و أنك إن لم تفعل فسيقتلك
و إن فعلت خلاك لحال سبيلك و لم يتعرض لك (و ينتهي الابتلاء) ..
بطبيعة الحال ستكون هنا مضطرا لأن تشرح بالكفر صدرك ..
فماذا سيكون ردك على هذه الضرورة و هذا الاضطرار؟؟؟
هل ستلجأ للضرورة أم لا؟؟
صراحة قولك هذا يبين عدم إدارك كثير من أمور قواعد الشرع
فما تذكره من أن الله سيمكن الشيطان لمعرفة المقاصد و الإطلاع على علم الغيب مستحيل بنصوص الشرع و ينفيه ربنا عن نفسه و حاشا لله أن يسلم للشيطان قلوب المؤمنين و مقاصدهم ليتحكم فيها فتنبه جيدا لهذا الأمر و تريث رحمك الله و ألهمك الصواب، قال تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ) حجة و ولاية, (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) قال سفيان: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر. (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) يطيعونه ويدخلون في ولايته, (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي: بالله مشركون
فقد يمكنه من جسده ليمتحن و ينظر في صدق إيمانه كما فعل مع عمار رضي الله عنه حينما قال كلمة الكفر مكره عليها أما أن يمكنه من قلبه ليعرف ما بداخله و شرح صدره أم لا فهذا محال في حق ربنا أن يقبله و هو الكريم الحكيم سبحانه فسرائر النفوس و خبايا القلوب ليست بيد شيطان كذوب خناس يفرر من الأذكار و سماع الآذان و إنما هي بيد خالقها و باريها و هو العلام للغيوب جل في علاه و عظم في أعالي سماه
و لا تقل لي أن المثال يختلف لأني أراه متقاربا جدا
و هي ضرورة و اضطرار مثلها مثل أكل لحم البشر ..
لن أقول أكثر من هذا فما ذكر كافيا بحمد الله و منه
وقد أرهقتنا مقولة دفع المفاسد التي صارت عكازا نتكئ
عليه في كل كبيرة و صغيرة
سبحان الله كيف ترهقنا حكمة ربانية عظيمة يعتمد عليها المؤمن إذا ما دعت الحاجة و هي من سماحة الإسلام و عظم تيسيره على الخلق، فقط يجب التفريق بين أمرين للأهمية البالغة و هو أن الرخصة قائمة لمن أرادها أما من أخذ بالعزيمة و صبر فله الجزاء الأوفى على صبره و صدق عواطف النبيلة و الأمر كما قال نبينا صلى الله عليه و سلم (إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه)
و خلاصة البحث و تقريره أن من عف نفسه عن أكل لحم الآدمي اضرارا و فضل الموت على ارتكاب المحرم و لو كان ذلك ضرورة فلعل فعله هذا هو الأجمل و الأفضل و قد أخذ بالعزيمة أما إذا لم يتعفف و فضل الحياة و النجاة بسد الرمق على الهلاك و فلعل فعله هذا هو الأسلم له و قد اختار الرخصة و هو مخير
و هنا أقول لأخي الكريم الباز حفظه الله أمرا و هو أن الدافع من اختياري هو الصراحة و الصدق و كل واحد منا أعلم بنفسه من غيره و مع هذا كله فإذا وقعت الواقعة و حصل الخطب فلعل الموازين عندها تختلف و تختل و ما كان بألف قد يصبح بفلس واحد
ويبقى كل هذا الكلام رأيا شخصيا لا يلزم أحدا و أرجو أن لا يحاسبني الله عليه
اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا
أو أخطأنا
تحيتي و محبتي
و في الآخر و ليس الأخير نسأل الله أن يمن علينا برحمته و أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها و ما بطن إنه ولي ذلك و القادر عليه و الحمد لله رب العالمين
¥