تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكان وقوع التعارض بين العقل الأوروبي الذي استضاء بنور الشرق المسلم والنقل الكنسي المحرف حتميا، فبدأ الصراع بينهما على استحياء، فدعا "ديكارت وبيكون" إلى إعمال العقل في غير الإلهيات الكنسية المحرفة، وذلك أشبه ما يكون بمعاهدة سلام وحسن جوار بين متصارعين!!!، أو فض اشتباك مؤقت، ولم يكن ذلك الاشتباك ليقع ابتداء لولا غلو الكنيسة في فرض أرائها المناقضة لصريح المعقول تحت تهديد سلاح محاكم التفتيش والحرمان الكنسي الذي يثير ذعر أي نصراني، إذ كيف يدخل الملكوت بغير تأشيرة بابوية؟!!!، وانهارت الهدنة المؤقتة، وبدأ العقل الأوروبي المتحفز يغزو معاقل النقل الكنسي، فجاء اليهودي: "سبينوزا" فوضع حجر الأساس لمدرسة النقد التاريخي التي تجرد الوحي من قدسيته، فتخضعه للنقد كأي نص أرضي، وهي المدرسة التي تأثر بها المستغربون من أمثال: "طه حسين" رائد مدرسة التشكيك في كل الثوابت الإسلامية في العصر الحديث، ونجح "سبينوزا" في هدم بنيان العهد القديم من جهة الرواية، فضلا عن دعوته الصريحة إلى تحجيم دور الدين في حياة الفرد، وتحجيم دور المؤسسة الدينية لتصبح متحفا للتراث القديم لا دور له في قيادة الحاضر والتخطيط للمستقبل، فهو يقول في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة":

"ومن الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشؤون الدين الحق في إصدار القرارات أيا كانت أو التدخل في شؤون الدولة وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم والتزموا في أثناء ذلك بالتراث القديم الأكثر يقيناً والأوسع قبولاً بين الناس". اهـ

نقلا عن: "العلمانية"، ص170، 171.

وهي صورة لما عليه واقع المؤسسات الدينية المهمشة في كثير من بلدان العالم الإسلامي في العصر الحاضر، فالشيخ المعمم: موظف ضعيف الشخصية يرتجف أمام رجل السياسة خشية الفصل أو الخصم!!! فدوره يقتصر على استطلاع هلال رمضان وتقديم التهنئة إلى القائد الحكيم بمناسبة حلول شهر رمضان ومن بعده عيد الفطر، فضلا عن فتاوى الفروع الفقهية، وهو ما تسبب في رد فعل عكسي، إذ حمل ذلك كثيرا من المسلمين، بل وكثيرا من المنتسبين إلى العمل الإسلامي، ممن غلبوا الجانب الحركي على الجانب العلمي، حملهم على الاستخفاف بدراسة الأحكام الفقهية، وظهرت مصطلحات ساخرة من قبيل: "فقهاء الحيض والنفاس والمسالك البولية"!!!، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.

وجاء "باسكال" ليهدم بنيان "الخطيئة" التي أسس عليها بنيان النصرانية من جهة الدراية، إذ ما ذنب تلك الأجيال المتعاقبة التي لا زالت من لدن آدم عليه السلام ترسف في أغلال خطيئته.

ولكل فعل رد فعل، إذ انتقلت أوروربا عمليا من عبادة الكنيسة إلى عبادة العقل البشري، وكانت الحملة العقلية الثانية على حصون الكنيسة المتهاوية: حملة اعتزالية، إن صح التعبير، قادها: "جون لوك" الذي قال بمقالة المعتزلة الأوائل فقدم العقل على النقل عند التعارض، فسلطان العقل هو القاهر فوق النقل، وما ذلك إلا لبطلان النقل الكنسي المطعم بالفلسفات الأرضية.

يقول صاحب رسالة "العلمانية":

"أما "جون لوك" فقد خطا خطوة أبعد من ديكارت بأن طالب بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض قائلاً: "من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالاً فقد أطفأ نور كليهما وكان مثله كمثل من يقنع إنساناً بأن يفقأ عينيه ويستعيض عنهما بنور خافت يتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق" … كما دعا إلى تطبيق مبدأ جديد على الحياة الأوربية آنذاك، وهو مبدأ التسامح الديني وإعطاء الحق لكل إنسان في أن يعتنق ما يشاء ويكفر بما يشاء من الأديان والمذاهب". اهـ

"العلمانية"، ص154.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير