وكان الراوي إذا انتقد عليه أئمة الجرح والتعديل شيئًا من حديثه أخرج أصول مروياته ليدفع ما أُنكر عليه. قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي نا حجاج بن محمد الترمذي عن ابن جريج قال أخبرني أبو جعفر محمد بن علي «أن إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مات حمل إلى قبره على منسج الفرس».
قال عبد الله: قال أبي: كان يحيى وعبد الرحمن أنكراه عليه، فأخرج إلينا كتابه الأصل قرطاس، فقال: ها أخبرني محمد بن علي [رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 38 - رقم 1114) أنا علي بن محمد بن عبد الله المعدّل نا محمد بن أحمد بن الحسن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل به].
وأصول الرواة فُقدت، وضاع على المتأخرين باب كبير من أبواب التحقق من مرويات الراوي، ولذا تجد كثيرًا من الأحاديث أعلها المتقدمون وبرهانهم في ذلك أصل الراوي، وهو أعظم البراهين قوةً.
وهذا البخاري لما علل أحد الأحاديث معتمدًا على أصل الراوي قال: «فهذا أصح لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم، لأن الرجل يحدث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب» [جزء رفع اليدين ص115 - بتخريج العلامة بديع الدين الراشدي -رحمه الله-].
وبعد ضياع الأصول فلا تكاد تقف على حديث أعله المتأخرون واستندوا فيه إلى أصول الرواة. ولذا أقر المتأخرون بصعوبة نقد الحديث عليهم مقارنة بالمتقدمين، قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- (ت: 728هـ): «وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث، فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول، وعرفوا عللها، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد، وفُقدت العبارات المتيقنة، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَلُ على الحاكم في تصرفه في (المستدرك)» [الموقظة ص46].
وقال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «واعلم أن المتقدمين كانوا يعتمدون على الحفظ، فكان النقاد يعتمدون في النقد عدالة الراوي، واستقامة حديثه، فمن ظهرت عدالته وكان حديث مستقيمًا وثقوه، ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع، فكان النقاد إذا استنكروا شيئًا من حديث الراوي طالبوه بالأصل، ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقيد السماع، فشدد النقاد، فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم الموثوق به، المقيد سماعه فيه، فإذا لم يكن للشيخ أصل لم يعتمدوا عليه، وربما صرح بعضهم بتضعيفه» [التنكيل (1/ 200 - 201)].
ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[27 - 10 - 08, 10:07 م]ـ
خامسًا: اتساع أسباب الحكم على الراوي عند المتقدمين، وضيقها عند المتأخرين:
المتأخرون عيال على المتقدمين في الحكم على الراوي، فغاية ما يفعله [المتأخر] هو الاعتزاء إلى ما قاله المتقدمون في الراوي، فعنهم يأخذ وبحكمهم يحكم.
قال أبو بكر الحازمي -رحمه الله- (ت: 584هـ) في شأن عبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان -رحمهما الله-: «وهما إمامان عليهما مدار النقد في النقل، ومن عندهما يُتلقى معظم شأن الحديث» [شروط الأئمة الخمسة ص72].
وإن كان بعض المتأخرين رام استقراء مرويات الراوي، فيخلص إلى ما يوافق أحكام أئمة الجرح والتعديل أو يخالف بعضهم كما فعل الإمام الجهبذ أبو أحمد ابن عدي -رحمه الله-، بيد أن هذا الاستقراء دون استقراء المتقدمين، فهو استقراء ناقص، يستند فقط إلى مرويات الراوي في ضوء الثابت من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومثل هذا الاستقراء قاصر، لأنه لا يُقابل بأصول مرويات الراوي، لاستحالة ذلك بسبب الضياع الذين أصابها.
ومن اللطائف أن أبا الحسن ابن القطان -رحمه الله- (ت: 628هـ) وهو متأخر جدًا يعيب مثل ذلك على من تقدمه كثيرًا، فهذا موسى بن هلال البصري -رحمه الله- قال فيه ابن عدي -رحمه الله-: «أرجو أنه لا بأس به» [الكامل في الضعفاء (6/ 2350)].
فتعقبه ابن القطان بقوله: «وهذا من أبي أحمد قول صدر عن تصفح روايات هذا الرجل، لا عن مباشرة لأحواله، فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته» [الوهم والإيهام (4/ 324). ويبقى ابن عدي إمامًا جهبذًا -رحمه الله-، قال فيه العلائي: «ابن عدي الحكم فيما اختُلف فيه من ذلك -يعني الحكم على الراوي-» نظم الفرائد ص260].
¥