وأما ضعفاء ابن الجوزي، فقد وصفه الذهبي بقوله: «من عيوب كتابه يسرد الجرح، ويسكت عن التوثيق» [ميزان الاعتدال (1/ 16)].
والذي لا مرية فيه أن طالب علم الحديث لا يستغني عن أي كتاب في تراجم الرجال، ومن مارس هذا الفن علم حقيقة ذلك.
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «والعالم محتاج إلى جميع كتب الرجال، لأنه يجد في كل منها ما لا يجده في غيره، وإن لم يكن عنده إلا بعضها، فكثيرًا ما يقع في الخطأ» [علم الرجال وأهميته ص49].
وليس معنى هذا أن من تكلم في الرواة إنما هم معاصروهم فقط، وأن المتأخرين مجرد نقلة؟
كلا، فقد تكلم بعض الأئمة فيمن لم يدركه، وربما أحيانًا خالف حكمهم حكم من تقدمهم.
قال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «فإن ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام في الرواة المتقدمين غالبًا من كلام من لم يدركهم، بل ربما كان بينه وبينهم نحو ثلاثمائة سنة، هذا الدارقطني المولود سنة 306 يتكلم في التابعين فيوثق ويضعف، قد يتوهم من لا خبرة له أن كلام المحدث فيمن لم يدركه إنما يعتمد النقل عمن أدركه، فالمتأخر ناقل فقط أو حاكم بما ثبت عنده بالنقل، وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل فإن المتأخر يذكره، فإن لم يذكره مرة ذكره أخرى، أو ذكره غيره، والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم (ثقة) أو (ضعيف) أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقل يوافق ذاك الحكم أم لا، وكثيرًا ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم» [الاستبصار في نقد الأخبار ص54].
وكذلك من الطرق في الحكم على الراوي عند المتقدمين هي الشهرة، فيكتفي الإمام بما هو مشتهر عند أترابه وأقرانه من أئمة الجرح والتعديل من حال الراوي تعديلاً أو تجريحًا عن مذاكرته، وطلب أسباب الحكم عليه.
وهذا يدل على توافق أئمة الجرح والتعديل في قواعدهم في الحكم على الرواة، إلا أن يظهر لأحدهم تعسفًا في إعمال القواعد، أو أخذًا بالاحتياط، فيُظهر أقرانهم وأترابهم على أي وجه خرج كلام إخوانهم من أئمة الجرح والتعديل.
فالشهرة من جملة الطرق المستعملة في الحكم على الرواة، قال ابن الملقن -رحمه الله- (ت: 804هـ): «فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل، أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليهم بها، كفى فيها، وهذا هو الصحيح» [المقنع في علوم الحديث (1/ 245)].
وتأمل القيد الذي ذكره ابن الملقن في قوله: «بين أهل النقل».
فالمرجع إلى [ما] اشتهر عند المتقدمين، وكذلك الحال بالنسبة للأحاديث، فما لم يعرفه المتقدمون فليس بحديث، وإن أخرجوه لك من بطون الأجزاء والمفاريد.
قال إسحاق بن راهويه: «كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل» [شرح علل الترمذي (1/ 222)].
ولذا حذر الأئمة من الكتب التي هي مظان الغرائب، وأوصوا بلزوم المشهور، قال الحافظ ابن رجب: «ونجد كثيرًا ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطبراني، أو أفراد الدارقطني، وهي مجمع الغرائب والمناكير» [شرح علل الترمذي (1/ 409)].
والركون إلى مثل هذه الغرائب هي التي أوجبت لهم الشذوذ في أحكامهم وآرائهم، وجعلتهم ينتحلون الآراء المهجورة والمذاهب المطروحة، فأحيوها بعد أن هجرها الجماعة.
قال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي (ت: 280هـ): «إن الذي يريد الشذوذ عن الحق يتبع الشاذ من قول العلماء، ويتعلق بزلاتهم، والذي يؤمّ الحق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم، وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يُستدل بهما على اتباع الرجل وابتداعه» [الرد على الجهمية ص68].
فشأن الصحيحين عظيم، وكم من متأخر جاء فاستخرج أو استدرك على الشيخين زيادات أعرض عنها الشيخان لعلل خفية [انظر على سبيل المثال فتح الباري لابن حجر (12/ 143)]، فخفيت على من بعهم لقصورهم عن الشيخين في هذا الشأن، فتوسعوا في حشد الطرق الضعيفة، أو الزيادات التي لا تقبل من أمثال من تفرد بها دون الثقات والحفاظ الكبار، فصححوا كثيرًا مما لا يصح، وتوسعوا وتساهلوا لأجل ذلك في التصحيح.
ثم من هؤلاء الذين توسعوا في قبول تلك الزيادات تراه يتعنت أحيانًا في إعلال الأحاديث الصحيحة، وربما تعنت في إعلال ما خرجه أصحاب الصحيح.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- (ت: 795هـ) منتقدًا الخطيب وابن عبدالبر: «فجمعوا وكثروا الطرق والروايات الضعيفة والشاذة والمنكرة والغريبة، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بحافظ أو من هو ضعيف لا يحتج به، أو مرسلات وصلها من لا يحتج به، مثل ما وصل بعضهم مرسل الزهري في هذا فجعله عنه، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، ووصله باطل قطعًا.
والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة في (الصحيح) بعلل لا تساوي شيئًا، إنما هي تعنت محض، ثم يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها» [فتح الباري (6/ 406 - 407)].
وقال العلامة عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- (ت: 1386هـ): «ومنهم من يحكي عن بعض المتأخرين، كالسبكي، وابن حجر، وابن الهمام، والسيوطي، ونحوهم، أنهم صححوا ذلك الحديث أو الأثر، أو حسنوه، ويكون جهابذة العلم من السلف قد ضعفوا ذلك الحديث أو حكموا بوضعه، وهم أجل وأكمل من المتأخرين، وإن كان بعض المتأخرين أولي علم وفضل وتبحر، ولكننا رأيناهم يتساهلون في التصحيح والتحسين، ويراعون فيه بعض أصول الفن، ويغفلون عما يعارضها من الأصول الأخرى، وفوق ذلك أن السلف كانوا أبعد عن الهوى، ومن هنا قال ابن الصلاح: (إن باب التصحيح والتحسين قد انسد، ولم يبق فيهما إلا النقل عن السلف).
وهذا القول خطأ، ولكنه يعين على ما نريده، وهو وجوب الاحتياط فيما يصححه المتأخرون أو يحسنونه» [العبادة (ق53ب-ق54أ)].
¥