"جبرييل هانوتو" اسم عالق في ذهني لأنه اسم مؤرخ فرنسي عهد اليه الملك فؤاد قبل خمسين عاما أن يكتب تاريخ مصر، وقد رأيت هذا الكتاب وقرات بعض صفحاته، وكان مطبوعا طبعة جميلة جدا، ويجبأن نقف هنا قليلا ونسأل: كيف لم يكن للملك فؤاد ثقة بأحد المؤرخين المصريين فيعهد اليهم بكتابه تاريخ وطننا ويضمن بذلك ألايكون هذا التاريخ مشوبا بشبهة تحيز؟! .. ولكن هذا هو الواقع، فالأسرة المالكة السابقة كانت تثق بالأجانب أكثر مما تثق بالمصريين، حتى على الوزراء، وقد قرات مرة في أحد تقارير المندوب السامي البريطاني الى حكومته في لندن ان الملك فؤاد قال له: "وزراء مصريون .. أين هم؟ .. اننى لاأؤمن بواحد منهم"! .. هكذا كان الملك فؤاد يشكو ويهين وزراءه أمام المندوب السامي البريطاني الذي تحتل حكومته جيوش حكومته أرض مصر! ..
لماذا علق ذلك المؤرخ الفرنسي في ذهني اذن؟!
أولا: لأنه مؤرخ ... وثانيا: لأنه كان في الوقت ذاته رئيس قسم "الرشيف" بوزارة الخارجية المصرية، وقد كان هذا القسم ومازال من أهم ادارات هذه الوزارة، فهو يضم جميع ملفاتها، وجميع صور المعاهدات، وهو مرجع وكنز كأنه المكتبة العامة وان كانت لاتفتح للجمهور، لنها تتضمن كل أسرار السياسة وكل شئ يتعلق بها، فحينما عدت من روما الى ديوان الوزارة بعد أن أعلنت ايطاليا الحرب على الحلفاء. أغلقنا القنصلية .. وربما كانت الباخرة التي ركبتها آخر باخرة تمر بسلام في البحر الأبيض المتوسط، ووجدتني معينا بالادارة التجارية، ولكن سمعت عن أرسيف الوزارة الذي يتضمن المكتبة فقلت: أذهب لزيارته.
وعندنا في مصر كلمة "أرشيف" كلمة محتقرة جدا، والموظف الذي يعين في الرشيف يعتبر بائسا، واذا طلبت ملفا ربما لايعثرون عليه، فليس هناك نظام ولاترتيب وبخاصة في ذلك الوقت، فلم يكن بعد قد اكتشف"الميكرو فيلم" أو وضع كروت للبحث عن الملفات.
وجدت الأرشيف هذا في قبو الوزارة .. الادارارت العليا فوق، انما الرشيف لأنه محتقر فتحت السلم، وبالأرشيف وجدت نمطين من أنماط الموظفين: موظف"دقة قديمة" يريد أن يوهمك أنه مهم وأن شغل الأرشيف هذا لغز من الألغاز لايعرفه الا هو.
حقيقة ان بعض الموظفين كانوا يضمنون مستقبلهم بايهام زملائهم بأن العمل يتوقف لو غابوا يوما، فهم "يكوشون" على الشغل ويعرفون اسراره ثم يتكتمون ذلك، ووجدت على الناحية الأخرى شابا ظريفا جدا وسيما- رقيقا يبتسم لي، وتوثقت صلة بيني وبين هذا الشاب واسمه"عثمان على عسل" ولاحظت ان الموظف القديم أصابه شئ من الغيرة، كان يود أن أجلس اليه انا وأستكين له وأسترشد بآرائه الصائبة ..
قال لي الأشتاذ عثمان عسل:"رايتك تحب الكتب ياأستاذ يحي، وانا لي صديق قديم اسمه محمود محمد شاكر يسكن مصر الجديدة اريد أن أعرفك به. هذا كان في أوائل 1940، وكان هذا"الرجل محمود محمد شاكر" يسكن في شارع كان يسمى في ذلك الوقت"السبق" وهو أمام نادي سباق الخيل، ويسكن أخر بيت في الشارع ويسكن في آخر دور في البيت، وكان على مقربة من هذا البيت مسجد كان رمزا لهذا الرجل الذي جاء وسكن هنا، وكانت محطة المترو تنتهي عند"روكسي" فاضطر أن أسير على قدمي حتى أبلغ البيت، وأتجنب أن أركب التاكسي حتى لاأدفع ستة قروش وقتها ..
في بيت محمود شاكر
دخلت بيت محمود شاكر فوجدت بيتا "يشف ويرف" الى درجة فائقة من النظافة ووجدت مكتبة فخمة جدا مملؤة بالكتب"مدروزة" ووجدت شابا يتحفز بالنشاط والتألق والاهتمام والكلام، فأحسست حقيقة أنني عثرت على صديق مهم جدا.
وبدأت أتأمل هذا الرجل باعجاب شديد وعرفت شيئا من سيرته ..
أبوه الشيخ"محمد شاكر" جاء من الصعيد، ودخل الأزهر، وظل يترقى حتى وصل الى مرتبة وكيل الأزهر ولم يعين شيخا للأزهر، ربما لأنه كان يشتغل بالسياسة ويكتب في الصحف، وكان مشتغلا بالحركة الوطنية مناوئا للانجليز ..
وكان عضوا في الجمعية التشريعية، فلما حلت الجمعية لزم بيته، ثم أصيب بمرض أقعده عن العمل.
¥