أفدت أنني قرأت شعر الجاهلية كله تقريبا على يديه، وهنا نفرق بين شيئين، معرفة اللغة، معرفة ألفاظها، ومعرفة سليقة اللغة. فاللغة ليست ألفاظا متراصة .. وحتى نقول أننا نفهم اللغة ونعرفها يجب أن تتسرب في دمنا وعلى لساننا مع طول المران، وطول المراس، وطول المتابعة .. هذه الزحمة، وهذه الطيبة وهذا العبق للغة لها قوانينها وخواصها وذاتيتها كأنها مخلوق حي له أريج، فلابد لمن يريد أن يتعلم اللغة ألا يكتفي بأن يعرف الألفاظ بل أن يدخل في أسرارها، واللغة الغربية من أغرب اللغات في العالم، فهل يتصور أن هناك لغة قادرة على أن تعيش أربعة عشر قرنا محتفظة بكل ألفاظها فكأن ألفاظ القرآن مكتوبة اليوم .. هذا لايحدث لأي لغة في العالم .. وهذا دليل على ثراء اللغة العربية ثراءً كبيرا ..
ان القرآن الكريم نزل على النبي الكريم في مجتمع صحراوي يعيش في جاهلية، وقد تضمن القرآن كلاما بسيطا يحمل هذه الرسالة الهائلة التي دعت الى التوحيد والمبادئ الاسلامية .. هذه الرسالة التي ذُهل لها العرب، نجد أن كلماتها سهلة جدا، تستعملها صحفنا ومجلاتنا الان، فهذه ظاهرة نقف أمامها مذهولين ..
ففي بعض الأحيان أقول: لقد مارست الكتابة قبل أن أقابل محمود شاكر، ومارستها بعد أن قابلته، وأحيانا يروق لي أن أقول مالفرق بين الأثنين .. هل انتقلت من الأسود الى الأبيض؟!
محمود شاكر والمتنبي
صحيح كنت أقرأ عليه يعض ماأكتبه، وكان يرشدني الى بعض ألفاظ أحسن من ألفاظ، وعند المقارنة أجد أنني قد اكتسبت ماأسميه سليقة اللغة .. ولكن أن كنت اكتسبت شيئا فقد اكتسبت عناء شديدا لأنني دخلت بعد ذلك في صراع شديد مع النص الأدبي الذي أكتبه وأحاول فيه أن أبلغ ماأستطيع من جهد لأن كل كلمة أكتبها عليها بصمات كتاب وشعراء قبلي وأنا عليم بهذه البصمة.
من أصدقاء "محمود شاكر" فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف، وكان قد طلب من محمود شاكر مقالة عن المتنبي .. فاذا بمحمود شاكر قد حبس نفسه في بيته – أمامي- ثلاثة أسابيع فاذا المقالة تشمل صفحات صفحات المقتطف من أوله الى أخره، فصدر المقتطف وليس فيه الا مقالة واحدة بقلم محمود شاكر .. وأنا أعتبره قد أتى في مقالته عن المتنبي بفتوحات لم يسبقه أحد اليها لأن في حياة المتنبي ألغاز عديدة استطاع محمود شاكر أن يحل رموزها ويعتبر هذا الكتاب من درر محمود شاكر، وقد أعاد طبعه، وخصوصا أنه هاجم في هذا الكتاب كل من كتب عن المتنبي متأثرا بالمستشرقين مثل طه حسين، وهذه الصفة أيضا من الصفات التي يظلم الناس فيها محمود شاكر لأنه يتبين من كتاباته أنه شديد القسوة شديد الهجوم، يلاحق من يخالفه بالرأي ملاحقة شديدة بلارحمة بلاهوادة ولكن في مثل هذه المعارك الأدبية يجب أن نغتفر له، بل هذا توفيق من الله.
المترجم العظيم
وأختم الحديث بتوفيق أعجب وأعجب فان مجلة"ريدرز دايجست" ومعناها"الأكل المهضوم للقارئ" مجلة أمريكية شهرية تقدم للقارئ نخبة من جميع مايُنشر في المجلات .. وحينما تريد المجلة أن تكتب في موضوع معين تدفع أجرا لصحيفة أحرى لتنشر هذه المقالة ثم تنقلها منها، لأنها ملتزمة الا تنشر مقالة مؤلفة لها.
هذه المجلة مكتوبة باللغة "الأمريكية" وهي ليست اللغة الانجليزية بل هي نوع من التطور الحديث في اللغة الانجليزية، ولذلك جئ بمصطلحات أمريكية مائة بالمائة خاصة بالأمريكان مائة بالمائة.
ثم قررت هذه المجلة أن تنشر نسخة عربية لها فأسندت رياسة تحرير هذه النسخة للأستاذ"فؤاد صروف" وأسميناها "المختار"، وعين محمود شاكر مستشارا لها، والتزمنت هذه المجلة ألا تنشر اسم المترجم على المقالات، فكان محمود شاكر يتسلم مقالات مترجمة من كبار الأدباء وعلماء اللغة، وخبراء في اللغة الالانجليزية الأمريكية فيصححها، ويكاد يكتبها من جديد .. وهكذا تعتبر مجلة المختار التي بين أيدينا والتي صدرت في هذه الفترة مرجعا لغويا لايقدر بثمن، لأننا قدمنا للناس مثلا على أن اللغة العربية قادرة على أن تترجم اللغة الأمريكية الحديثة، وكان الشرط الذي يلزم جميع المترجمين أن يلتزموا بالنص أو يتركوه .. ولاينطبق عليهم القول المعروف"كان اذا ألف ترجم واذا ترجم ألف" وأنا أطالب مجمع اللغة العربية بمراجعة هذا العمل واستخراج الكلمات والألفاظ التي استطاع محمود شاكر أن يثبت بها أن هذه الكلمات المستحدثة موجودة في اللغة العربية، وهذا هو العمل الكبير جدا الذي قام به محمود شاكر.
وقد أصدر حتى الآن عدة كتب من التراث بتحقيقه، وفي هذه الكتب تشعر كأنك تقرأ تاريخ هذه الأمة من أوله الى آخره، تاريخ رجالاتها .. تاريخ لغتها .. تاريخ شعرائها .. وأهم عمل قدمه أخيرا هو"طبقات فحول الشعراء"
وليس هذا كله الا قليلا من كثير حاولت ان أتحدث به عن محمود محمد شاكر، ولكن القول فيه لو أطعنا أنفسنا يمتد بلا انتهاء، فنجتزئ منه هذه الصفحات القلائل تحية لهذا العلم الشامخ من أعلام عصرنا ..
¥