لما اكتملت لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه فتوح الشام ذهب ليتفقد أحوال الرعية , فلما وصل إلى الشام نزل بحمص , ثم طلب من أهلها أن يرفعوا إليه أسماء فقراء المسلمين بحمص , فلما رفعوا إليه تلك الأسماء نظر إليها وفيها وإذا به يقف أمام إسم من تلك الأسماء وقد اعترته الدهشة والعجب!
تُرَى ماذا كان ذلك الإسم؟ ولماذا الدهشة والعجب من عمر؟
الإسم: سعيد ابن عامر ابن جَزْيَم ’ وهو ذلك الصحابي الجليل الذي ولاَّه عمر ابن الخطاب على حمص , فهو أمير حمص , وهذا سر عجب عمر ابن الخطاب , فأمير حمص اسمه ضمن أسماء فقراء حمص , شيء عجيب غريب , اعتقد عمر أن هناك تشابها في الأسماء , فقد يكون هناك من سمي بهذا الإسم , فأراد عمر أن يستوثق من الأمر , فسأل مَنْ سعيد ابن عامر؟ فقالوا له يا أمير المؤمنين هو والي حمص , قال عمر والي حمص؟ قالوا نعم , قال أين رزقه وجُعْلُه؟ -فمعلوم أن الولاة لهم رزق وراتب في بيت مال المسلمين قد حدد لكل واحد منهم , قالوا يا أمير المؤمنين: هو لا يمسك شيئا , ما يأتيه يجعله للناس , فبكى عمر
لِلَّهِ دَرُّكَ يَا عُمَر
ثم جلس ليحقق ما جاء من أجله وهو الإطمئنان على أحوال الناس , وكان في مقدمة ما يسأل عنه حال الولاة والعمال معهم , حتى لا يكون هناك ظلم يقع في إمرته يؤاخذه الله سبحانه وتعالى عليه يوم القيامة , وحتى لا ينسب لنفسه العدل , والظلم يملأ أرجاء البلاد , فسأل الناس كيف حاله معكم؟ وهو يعني سعيد , قالوا يا أمير المؤمنين بخير ولكن نشكوه في أربع , قال عمر وما هي؟ قالوا الأولى: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار , وأما الثانية: فهو لا يجيب أحدا بليل , وأما الثالثة: له يوم في الشهر لا يخرج إلينا ولا يراه الناس , والرابعة: فهو بين الحين والآخر ينغض نغضة حتى نظن أنه قد مات-أي يشهق فجأة ويغشى عليه حتى نعتقد أنه قد فارق الحياة- فقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه اللهم لا تزل رأيي فيه-أي لا تخيب رأيي واختياري-
لِلَّهِ دَرُّكَ يَا عُمَر
ثم قال لأجمعن بينه وبينكم حتى أنظر فيما قلتم , فأرسل في طلبه , فلما مثل بين يديه , أعاد عمر السؤال على الناس مرة أخرى , كيف حال عاملكم معكم , قالوا بخير ولكن نشكوه في أربع وذكروها جميعا , قال عمر لسعيد: سمعت؟ قال نعم , قال إذًا فأجب عن الأربع؟ الواحدة تلو الأخرى , فقال سعيد: يا عمر والله ما كنت أريد أن يطلع على ذلك أحد , ولكن ليس لي بُدٌّ , أما كوني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار-أي تطلع شمسه وتشتد- فإن أهل بيتي في ضعف , وليس عندنا خادمة ولا خادم , فأستيقظ أصلي الفجر ثم أجلس فأعجن العجين ثم أنتظره حتى يختمر , ثم أخبز لأهل بيتي ثم أخرج فيكون النهار قد تعالى , وأما عن كوني لا أجيب أحدا بليل , فإني قد جعلت نهاري للناس وليلي لله , فلا يشاركني فيه أحد , وأما كوني لا أخرج إليهم يوما في الشهر , فوالله الذي لا إله إلا هو , لا أملك إلا ثوبي هذا أغسله مرة في الشهر , وفي هذا اليوم أنتظره حتى يجف , فيكون يومي قد انقضى فلا يراني فيه الناس , وأما عن هذه النغضة التي تأخذني فإني قد رأيت مصرع خبيب الأنصاري بمكة وقد كنت مشركا , ورأيت قريشا قد بضعوا لحمه-أي قطعوا من لحمه- وجعلوه على جذع ثم قالوا له أتحب أن يكون محمد مكانك , فقال: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي وقد شيك محمد بشوكة , ثم نادى بأعلى صوته
يا مُحَمَّد
وقبضه الله , وكلما تذكرت هذا اليوم وتذكرت عدم نصري له وشركي بالله ظننت واعتقدت أن الله لن يغفر لي , فأخذتني تلك النغضة , لماسمع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ذلك الكلام من سعيد ابن عامر بكى
لِلَّهِ دَرُّكَ يَا عُمَر
وحمد الله أنه لم يزل فراسته فيه-أي لم يخيب فراسته في حسن اختياره لهذا الرجل-ثم قام من مجلسه وأرسل إلى سعيد بألف دينار-والدينار ما كان من ذهب_ وقال رسول عمر إلى سعد: إن عمر قد ارسل إليك بهذا المال لتستعين به على أمرك , فأرسل سعيد إلى عماله من كانوا تحت إمارته وقد وضع الألف دينار بين يديه ليقول لهم خذوا هذه-وأخذ بعضها- فاذهبوا بها إلى أرملة آل فلان , وخذوا هذه واذهبوا بها إلى مسكين آل فلان , وهكذا حتى أنفدها جميعا , قالت له امرأته يا سعيد أما أبقيت منها شيئا نستعين به؟ قال لها: والله قد سمعت رسول الله صلى
¥