تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبسبب حرص الكاتبة على تصوير النصارى فى معظم الأحيان تصويرا رومانسيا حالما كنت أحس أننى أقرأ لساويرس بن المقفع لا لمصرية مسلمة من عصرنا. ودعنا من أن ذلك قد تم على لسان الراوى، الذى كان قد أسلم قبل ذلك بزمن غير قصير، لكنه يتكلم ويتصرف طوال النصف الأول من الرواية وكأنه لا يزال نصرانيا حتى إن القارئ لا يتنبه أبدا إلى أن من يحكى له وقائع الرواية ويحكم على أشخاصها ويقيّم تصرفاتهم وأفكارهم وكلامهم هو شخص مسلم. فما دلالة هذا؟ كذلك يلاحظ القارئ حرص الكاتبة على إنطاق بدير الرواى وثاونا رفيقه فى الرحلة بنصوص الكتاب المقدس كما هى فى ذلك الكتاب وكأنهم أشخاص مسلمون يستشهدون بالقرآن. ومعروف أن موقف الكتابيين من كتابهم يختلف عن موقف المسلمين من القرآن المجيد، فكثير من المسلمين يحفظون قرآنهم عن ظهر قلب، وهو تقليد لا يعرفه أهل الكتاب، ومن ثم فليس من عادتهم ولا فى مقدروهم أن يسوقوا نصا كتابيا طويلا كما يصنع كثير من المسلمين. ومن هنا فإن القسيس حتى فى صلاته يوم الأحد مثلا يضطر إلى القراءة من كتاب دينه ولا يعتمد على ذاكرته كما يفعل أى شيخ فى صلاة الجماعة على ما هو معروف. ثم مَنْ مِنَ النصارى يا ترى كلما سعل أو بصق أو التفت يَمْنَةً أو يَسْرَةً يستشهد على ما يفعل بنصوص العهد الجديد أو القديم كما تفعل شخصيات الرواية النصرانية؟

ترى هل ما صنعته الكاتبة فى روايتها مما يقوى الوحدة الوطنية التى يتداعى إليها الكثير من المسلمين هذه الأيام، على حين يصر كثير جدا من رجال الدين على الطرف الآخر على الزعم الإجرامى الكاذب بأن المسلمين فى مصر ما هم إلا عرب غزاة لا ينتمون إلى أرض النيل، وينبغى بناء عليه أن يعودوا من حيث أتَوْا، أى إلى "جزيرة المعيز" حسبما يقول الأوباش من نصارى المهجر، يقصدون بلاد العرب؟ أم هل هو مما يملى للمتطرفين منهم بمواصلة تحدى المصريين المسلمين والتساخف عليهم والتباذؤ فى حقهم؟ وهلا كتبتْ رواية عن خروج النصارى المصريين على مقتضيات الأخوة الوطنية أيام الاحتلال الفرنسى أوائل القرن 19 مثلا؟ أم هلا خصصتْ رواية لما فعله الصليبيون عند دخولهم القدس وتذبيح عشرات الألوف من المسلمين الأبرياء؟ أم هلا خصصتْ رواية لمحاكم التفتيش فى الأندلس؟ أم هلا خصصتْ رواية لاضطهاد النصارى فى مصر قبل الإسلام للوثنيين وتحويلهم معابدهم إلى كنائس؟ أم هلا خصصتْ رواية لتعصبهم المفرط وتقتيلهم من لم يخضع للكنيسة كلما شاموا قوة فى أنفسهم كما فعلوا مع هيباتيا على سبيل المثال، إذ جَرُّوها على الرصيف جَرًّا وحشيًّا فسلّخوا جلدها، ثم مزقوا جسدها تمزيقا، مما فصل القول فيه المؤرخون والأدباء انتهاءً بالدكتور يوسف زيدان فى روايته: "عزازيل"؟ أم هلا خصصتْ رواية تدافع بها عن بنات جنسها من السيدات النصرانيات اللاتى اختطفهن الكنيسة ووثقتهن بالأغلال أو قتلتهن فى الأديرة حسبما نسمع لأنهن رأين أن يسلمن بمحض إرادتهن كوفاء قسطنطين مثلا؟ والآن أمام السيدة المؤلفة، بل تحت سمعها وبصرها ولا تحتاج من ثم أن تذهب فتقرئى فى الكتب القديمة، أمامها قضية كاميليا شحاتة، بل ملحمتها الجبارة التى أثبتت فيها تلك السيدة العظيمة أنها بطلة من عيار نادر. ثم هى امرأة مثل المؤلفة، ولا بد أن تتعاطف معها. فهل ستكون على مستوى الاحداث وتكتب ملحمة تلك السيدة المؤمنة؟ أم هل ستتخَلي عنها كما تخلى الجميع تقريبا، وتخيب الظن فيها؟ هذا هو السؤال.

لقد اتخذت الكاتبة وجهة نظر النصارى: فى تسمية المتمردين فى شمال الدلتا بـ"البشموريين"، وفى الإكثار من استخدام مصطلحاتهم، وفى تحليلهم للحوادث، وفى إجراء الرواية على لسان خادم سابق من خدمة الكنيسة ينطلق من منطلق نصرانى رغم أنه، كما سبق أن أوضحت، قد أسلم فى منتصف الرواية، إذ نجده مستمرا فى النظر إلى الأشياء والوقائع والأشخاص والأفكار والأديان من زاوية نصرانية، وهو ما يثير العجب والاشتباه. ومما يلفت النظر فى هذا السياق أن المؤلفة لم تذكر مثلا ثورة نصارى البشمور على عدد من أساقفتهم فى تلك الفترة طبقا لما كتبه فى هذا الصدد ساويرس بن المقفع ذاته فى كتابه: "تاريخ البطاركة". ولا أريد أن أقول إننى أخشى أن يكون مردّ ذلك إلى سياسة تلميع صورة النصارى وتشويه صورة المسلمين بوجه عام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير