تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولدينا كذلك (ص47) وصفة طبية عشبية من وصفات ذلك الوقت لعلاج نوع من الديدان يسمى: "بند". والكلام فيها لثاونا رفيق الراوى فى رحلته إلى بلاد البشمورى، والخطاب موجه إلى أم صبى قابلاها فى الطريق كان ابنها مصابا بالدودة المذكورة. يقول ثاونا: "إن ولدك هذا مصاب بالدودة الشيطانية المسماة: "بند"، وقد تمكنتْ منه واستقرت فى جوفه، وهى تأكل ما يأكل جميعه. لذا فهو مصفر هزيل. لذلك عليك إعطاؤه شرابا من صمغ السليخ ممزوجا بزهر النعناع الفلفلى مع الصاس الذى يسمونه بلسان العرب الآن: الخروع، على أن يؤخذ قبل التريق بعد رجه جيدا فى القارورة لمدة ثلاثة أيام حتى تموت الدودة وتخرج من جوفه مع ما يخرج من فضلات. وإذا تقايأ مرة فلا تخافى، فهذا من الأمور المعتادة عند تناول مثل هذا الشراب. ومعناه أن الترياق قد بدأ يفنى الدودة، وهى فى سبيلها إلى الموت والنزول. ولو شرب الشيح المغلى قبل النوم كل ليلة فسوف يأتى النفع سريعا ويخلص الولد مما هو فيه". فيا للعجب أن يظل الراوى متذكرا لكل شىء فى الوصفة بما فيها من عناصر ومقادير ومواعيد ونتائج تفصيلية، وكأنه قد رقن كل هذا على الكاتوب، الذى لا يضل ولا ينسى رغم هاتيك السنين التى مرت جميعها.

وهناك ألوان الأطعمة، أو كما نقول اليوم: "أطباق الطعام"، التى تترى أسماؤها ووصفاتها على لسان الراوى كالخشكنانج والسفدية والأسفيذباجة والفالوذج والسكباجات والحنطيات والسلاقات وقلايات الطباهج وإحبارية السمك والمأمونية وجواذب الدجاج وبهطات الأرز والخبز الأفلاعمونى والخبز الماوى ... إلخ (ص274). وفى موضع آخر نسمع بدير يصف بالتفصيل، جريا على عادته، كيفية صنع "العكيكة"، وهى لون من الطعام كان يُقَدَّم إلى المأمون، يصنعه له حسين الطباخ من اللحم السمين وإلية الخروف. وفى وصفة الطبق تقابلنا ألوان من الأبازير والتوابل التى تضاف بمقادير غاية فى الدقة وتتطلب شرحا على قدر من التعقيد، كالكمون والفلفل والدارصينى والملح والمصطكى والثوم واللبن الفارسى (ص281). كذلك هناك خريطة بغداد التى رسمها له حسين الطباخ لتساعده على الوصول إلى أشخاص ينتمون مع حسين إلى بعض الجماعات السرية المناهضة للنظام فى عاصمة الإمبراطورية (ص315 - 316). وهى خريطة دقيقة لا تناسب ما كانت عليه الخرائط فى ذلك الوقت، فضلا عن أنه من المستبعد أن يستعين الناس آنئذ بالخرائط فى الوصول إلى ما يبغون من أماكن. إننا لا نفعل هذا الآن فى مدننا العصرية، فما بالنا بأجدادنا فى ذلك الزمن البعيد الذى لم أسمع أن أحدا فيه ولا فيما بعده بقرون قد استعان بتلك الأداة فى الاهتداء إلى ما يبغى بلوغه من الأحياء والمبانى فى مدينة كبغداد؟

كذلك لا ينبغى أن ننسى الأشعار العربية الكثيرة التى كان الراوى يسمعها مرة واحدة يتيمة فيحفظها فى الحال ولا تغادر ذاكرته أبدا رغم أنه لم يكن عربيا. بل لم يكن وقتذاك يستعمل العربية فى غالب الأحيان. وهنا لا بد أن نذكر ما لاحظناه فى هذه الأشعار من أن الألفاظ مشكَّلة تشكيلا خاطئا مما يدل على ضعف الكاتبة فى قراءة الشعر. ومن تلك النصوص التى التقطتها حافظة راوينا فلم تخرم منها حرفا الأبيات التالية التى ذكر أنه سمع أحد صوفية المسلمين ينشدها لدن إبحاره مع سائر الأسرى البشموريين من تنيس مغادرين الديار المصرية (ص205):

أفي كلِّ عام غربة ونزوحُ * أما للنّوى من منيةٍ فتريحُ؟

لقد طلح البينُ المشتُّ ركائبي * فلا أرين البينَ وهو طليحُ

وأرّقني بالري نوح حمامة * فناحتْ، وذو الشجو الحزين ينوحُ

على أنها ناحتْ، ولم تَذْرِ دمعةً * ونُحْتُ، وأسرابُ الدموع سفوحُ

ومنها كذلك الأبيات التالية التى لم ينسبها الرواى إلى شاعر معين كعادته، وهى من بحر الطويل، وصاحبها هو العَكَوَّك الشاعر العباسى، وكان معاصرا للخليفة المأمون:

أَلا رُبَّ هَمٍّ يُمنَعُ النَومُ دونَهُ * أَقامَ كَقَبْضِ الراحَتَيْنِ عَلى الجَمرِ

بَسَطْتُ لَهُ وَجهي لأَكْبِتَ حاسِدًا * وَأَبدَيْتُ عَن نابٍ ضَحوكٍ وَعَن ثَغْرِ

وَشَوقٌ كَأَطرافِ الأَسِنَّةِ في الحَشَا * مَلَكتُ عَلَيهِ طاعَةَ الدّمعِ أَن يَجري

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير