تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بل إن الأمر ليبلغ مبلغا لا يطيقه العقل، وذلك حين يخبرنا بدير (ص224) أن أمه كانت تغنى أمامه وهو صغير الأبيات التالية. ووجه العجب أن هذه الأبيات لا يمكن أن تكون من نتاج العصر العباسى المبكر الذى تدور أحداث الرواية فيه. كما أن أم بدير لم تكن عربية أصلا، بل لم تكن تعرف العربية حتى تردد شعرا عربيا. تقول الأبيات الغريبة غير المنتظمة عروضيا:

صيرنى حزنى على أحبابى * عليلا بلا علة

وكاد الأسى والنوح * يخرجنى من الملة

ودهر يروح يا عين وشوقى * لخلى لا توصف له خلة

ومع هذا فلا نكران أن لكثير من الشعار التى أوردتها المؤلفة على لسان بدير عُلْقَةً بالقلب. وآخر تلك الأشعار هى الأبيات الثلاثة التى اختتمت المؤلفة بها روايتها، وهى:

حسبي اللّه توكّلتُ عليهِ * مَنْ نواصي الخلق طرًّا بيديهِ

ليس للهارب في مهربه * أبدا من راحة إلاّ إليهِ

رُبَّ رامٍ لي بأحجار الأذى * لم أجد بدًّا من العطف عليهِ

وعلى عادتى فى التنقيب عن صاحب تلك الأبيات أقول إنها لبهلول المجنون، الذى كان يعيش فى عصر الرشيد. وكتب ابن شاكر الكتبى صاحب "فوات الوفيات"، من أهل القرن الثامن الهجرى، فى ترجمته ما يلى، وهذا الذى كتبه مؤلم أشد الألم: "بهلول بن عمرو، أبو وهيب الصيرفي المجنون، من أهل الكوفة. حَدَّثَ عن أيمن بن نابل وعمرو بن دينار وعاصم بن أبي النجود. وكان من عقلاء المجانين ووسوس، وله كلام مليح ونوادر وأشعار. واستقدمه الرشيد أو غيره من الخلفاء ليسمع كلامه. توفي في حدود التسعين والمائة. قال الأصمعي: رأيت بهلولا قائما ومعه خبيص، فقلت له: أيش معك؟ قال: خبيص. فقلت: أطعمني. قال: هو ليس لي. قلت: لمن هو؟ قال: هو لحمدونة ابنة الرشيد بعثتْه لي آكله لها. وقال محمد بن أبي إسماعيل ابن أبي فديك: رأيت بهلولا في بعض المقابر، وقد أدلى رجليه في قبر، وهو يلعب بالتراب، فقلت: ما تصنع ها هنا؟ قال: أجالس أقواما لا يؤذوني، وإن غبت لا يغتابوني. فقلت: قد علا السعر مرة، فهل تدعو الله فيكشف عن الناس؟ فقال: والله ما أبالي، ولو كان حبة بدينار. لله علينا أن نعبده كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا. ثم صفق يده، وأنشأ يقول:

يا من تمتّعُ بالدنيا وزينتها * ولا تنام عن اللذات عيناهُ

شغلت نفسك فيما لست تدركه * تقول للّه ما ذا حين تلقاهُ؟

وقال الحسن بن سهل: رأيت الصبيان يرمون بهلولا بالحصى، فأدمته حصاة، فقال:

حسبي اللّه توكّلتُ عليهِ * مَنْ نواصي الخلق طُرًّا بيديهِ

ليس للهارب في مهربه * أبدا من راحة إلاّ إليهِ

رُبَّّ رامٍ لي بأحجار الأذى * لم أجد بُدًّا من العطف عليهِ

فقلت له: تعطف عليهم، وهم يرمونك؟ فقال: اسكت. لعل الله يطلع على غمي ووجعي وشدة فرح هؤلاء فيهبُ بعضنا لبعض. وقال عبد الله بن عبد الكريم: كان لبهلول صديق قبل أن يُجَنّ، فلما أصيب بعقله فارقه صديقه. فبينما بهلول يمشي في بعض طرقات البصرة إذ رأى صديقه. فلما رآه صديقه عدل عنه، فقال بهلول:

اُدْنُ منّي ولا تخافنَّ غدري * ليس يخشى الخليل غدر الخليل

إنّ أدنى الذي ينالك مني * ستر ما ُيتَّقَى وبثّ الجميل

قال الفضل ابن سليمان: كان بهلول يأتي سليمان بن علي فيضحك منه ساعة ثم ينصرف. فجاءه يوما، فضحك منه ساعة ثم قال: عندك شيء نأكل؟ فقال لغلامه: هات لبهلول خبزا وزيتونا. فأكل ثم قام لينصرف، وقال لسليمان: يا صاحب، إن جئنا إلى بيتكم يوم العيد يكون عندكم لحم؟ فخجل سليمان. وجاء إلى بعض أشراف الكوفة وقال له: أشتهي آكل عسلا بسرقين (أى عسلا بالزبل)، فدعا بهما، فأكل من العسل وأمعن فيه. فقال له الرجل: لم لا تأكل السرقين كما قلت؟ قال: العسل وحده أطيب. وعبث به الصبيان يوما ففر منهم والتجأ إلى دارٍ بابها مفتوح فدخلها، وصاحب الدار قائم له ضفيرتان، فصاح به: ما أدخلك داري؟ فقال: "يا ذا القرنين، إن يأجوجَ ومأجوجَ مفسدون في الأرض". وسأله يوما علي بن عبد الصمد البغدادي: هل قلتَ شيئا في رقة البَشَرة؟ فقال: اكتب:

أضْمر أن أُضْمِر حبي له * فيشتكي إضمار إضماري

رَقَّ فلو مرّت به ذرّةٌ * لخضّبته بدمٍ جاري

فقال: أريد أرقّ من هذا. فقال:

أضمر أن يأخذ المرآة لكي * يبصر وجها له فأدناها

فجاز وهم الضمير منه إلى * وجنته في الهوى فأدماها

فقال: أريد أرقّ من هذا أيها الأستاذ. فقال: نعم، وما أظنه. اكتب:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير