مكثتُ في بيروت أيامًا، كان خلالها والدي والأستاذ العطار في السّجن، وكنتُ في صحبة زوجته السيدة بنان الطنطاوي وهي من مواليد عام 1941م وكان عمرها -آنذاك- ثلاثاً وعشرين سنة، كنتُ معها طوال الوقت؛ لأنّ لنا مصلحةً واحدة؛ أذهب معها لمقابلة المحامين، وبعض الشخصيات من أجل الإفراج عن المعتقليْن.
في خلال هذه الأيام رأيتُ من قوة شخصيّة السيدة بنان، ولباقتها، وحُسْن تصرُّفها، وحكمةِ حديثها، ما يدعو إلى الإعجاب.
استطعنا أخذَ موعدٍ لزيارة والدي وزوجِها في السّجن لبضع دقائق.
لم يزل المشهد ماثلاً أمام عينيّ: كنتُ أقف على يسار الأخت بنان أمام والدي، وهي أمام زوجها، وكلاهما خلف شبك الحديد داخل السجن، كان والدي يُطمئنُني ويعطيني بعض النصائح، فسمعَ وسمعتُ الأخت بنان تقول لزوجها: «يا عصام، أنا والأولاد بخير وسلامة، فلا تقلقْ علينا، كنْ قوياً كما عرفتُكَ دائماً، ولا تُرِ هؤلاء الأنذالَ من نفسك إلا القوة والصلابة واستعلاءَ الحق على الباطل.»
فبكى أبي عندما سمع هذه الكلمات من شابةٍ في مقتبل العمر، كان قلقُ زوجها عليها وعلى أسرته، أكبر من قلقها عليه وهو في السّجن!)
ثم قال د/ الأميري: (وبعد خروجنا من السجن وركوب السيارة أجهشَتْ بنانُ بالبكاء! وعلمتُ أنّها إنّما كانت تتجلّد وتتصبّر؛ لِتُري زوجها من نفسها خيرًا، ولتربط على قلبه في موقف هو أشدّ ما يكون حاجة إلى من يربط على قلبه لا من يمزّقه ... ).
قلت: فانظر إلى هذا المثال النادر من النساء في زمن الغربة الثانية!
أيُّ قلب كان يسكن صدر تلك المرأة الشريفة؟ وأيُّ صبرٍ وجلَدٍ وعزيمة جعلها تنتصر على شديد أحزانها، وتكتم عزيز دموعها حتى عن زوجها!
وكم كانت تُكاتب زوجها وهو في سجنه ومنْفاه، وتحثُّه على الثبات على الحق، وعدم الخضوع لرغبات أهل الفساد، وتُذكِّره بما أعدَّه الله للصابرين والشاكرين، وتُطْمئنه على أهله وولده؟
وكانت قد أرسلت إليه مرة رسالة تقول له فيها:
«لا تحزن ولا تفكِّر فيَّ، ولا في أهلك، ولا في مالك، ولا في ولدك، ولكن فكِّر في دينك وواجبك ودعوتك؛ فإننا –والله- لا نطلب منك شيئًا يخصُّنا، وإنما نطلبك في الموقف السليم الكريم الذي يبيِّض وجهك، ويرضي ربك الكريم، يوم تقف بين يديْه حيثما كنت، وأينما كنت، أما نحن فالله معنا، ويكتب لنا الخير، وهو أعلم وأدرى سبحانه وأحكم.».
وأرسلتْ إليه مرة أخرى رسالة تقول فيها: (نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله، حيثما كنتَ وعلى أي حال كنت، واللهمعك «يا عصام» وما يكتبه الله لنا هو الخير).
ولمَّا قرَّرتْ الحكومة السورية طرد زوجها من البلاد، سافر إلى بروكسل، وهناك أصيب عصام بالشلل! فكان يعاني من مرارة الغربة مع عذاب المرض!
فكانت زوجته بنان ترسل إليه الرسائل تُبشِّره فيها بجزاء الصابرين، وتُواسيه على ما هو فيه من البلاء المبين.
فكانت تقول له: (لا تحزن يا عصام .. إنك إنْ عجزتَ عن السير سرتَ بأقدامنا .. وإن عجزتَ عن الكتابة كتبتَ بأيدينا .. تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكَّلتَه وآمنتَ به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك ـ وإن اضطررنا ـ الخبزَ اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام!).
تربيتها الصالحة لأبنائها
ومع ما كانت تعانيه تلك المرأة من الشدائد والأهوال؛ إلا أنها لم تتوانى عن تربية أبنائها تلك التربية المستقيمة، مع تزويدهم بأصول التوحيد، والاعتماد على الله في ما دقَّ وجلَّ، مع مراقبته في الأقوال والأفعال، وطلب الغوث منه في وقت وحال.
تقول ابنتها هادية عصام العطار عن أمها بنان:
(وكانت -رحمها الله- تُعلّمني وأخي - ومَنْ لعلّه يكون معنا - الدعاءَ ونحن صغار.
وكانت تُشعِرنا دوماً بوجود الله، وقدرة الله، وفضل الله عز وجل.
وإذا مرضنا علَّمتنا أن نطلب -مع تناول الدواء- من الله الشفاء.
وإذا أردنا أمراً واجباً، أو محبوباً ممكناً، علَّمتنا أن نستعين عليه - مع الجهد الضروري للحصول عليه- بالدعاء.
¥