وكانت تعلّمنا أنَّ الله أقربُ إلينا، وأحْنَى علينا، وأرحم بنا، وأقدر على عوننا من الآباء والأمهات وكلّ مخلوق، وأن نتوجه إلى الله في السرّاء والضرّاء وسائر الأمور قبل أن نتوجه إلى أيّ مخلوق، وأن نحبّه، ونطيعه، ونثق به، ونرضى بقضائه وقدره .. أكثر مما نحب ونطيع أيّ مخلوق ..
وهكذا عرفنا الصلة القلبية العاطفية الحميمة بالله عز وجل، مع الصلة العلمية والفكريّة، وذُقْنا حلاوة الإيمان ونداوته ودِفئه، وشعرنا في تلك الأيّام حقًّا بأنّ ربَّ الوجود أقرب إلينا من كلّ موجود .... ).
قيامها بواجبات الزوجة كم أمر الله
ومع كونها كانت الأم الفريدة في تنْشئة أبنائها، فكذلك كانت نِعْمَ الزوجة الصالحة لزوجها.
فيقول عنها زوجها عصام العطار: (كانت -رحمها الله- قادرة رغم حساسيتها الشديدة، وتأثُّرِها الشديد، بكلّ ما يعرض لنا، أو ينزل بنا
قادرةً على أن تَسْتَنْبِتَ أزاهيرَ سُرورٍ في أراضي الأحزان، وتُوَفِّرَ لنا لحظاتِ مُتَعٍ بريئةٍ في زحمة الواجبات والأعمال
وأن تُحَوِّلَ غُرَفاً حقيرةً سَكنَّاها إلى ما هو أحلى من قصور، وأن تجعلَ سعادةً غريبةً تسكنُ معنا وتعيش بيننا حيثُ سَكَنّا من البلدان
وكثيراً ما شعرنا في غُرَفِنا الحقيرة بهذه السعادة الغامرة، وبِنَشْوَةِ الاستعلاءِ على الشدائدِ والمغرياتِ في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فردَّدْنا أو أنشدنا - بنان وأنا وطفلانا الصغيران: هادية وأيمن - فُرادَى ومُجتمعين هذه الأبياتَ القديمة الرائعة التي كانت وما تزال تهزّنا هزّاً،
والتي كانت تُعَبّرُ وما تزال تُعَبّرُ عنّا وعن حالِنا وخيارِنا الجميل النبيل الأليم:
فإن تكُنِ الأيّامُ فينا تبدلتْ ... بِبُؤْسَى ونُعْمَى والحوادثُ تفعَلُ
فَمَا لَيّنَتْ مِنّا قناةً صَليبَةً ... وَلا ذَلَّلَتْنا لِلَّتي لَيْسَ تَجْمُلُ
ولكنْ رَحَلْناها نُفوساً كَريمةً ... تُحَمَّلُ ما لا يُسْتطاعُ فَتَحْمِلُ
********
وكانت إذا أحَسّتْ في نفسها، أو أحَسّتْ منّي في حِوارِنا ونقاشِنا في بعض الحالاتِ النادرةِ بَوَادِرَ زَعَلٍ أو غضب؛ لم تسمح لهذا الحوار والنقاش أن يستمرَّ ويشتدّ، وانفردتْ بنفسها ساعةً - تطولُ أو تقصر- تقرأ القرآن -كما تَعَوَّدَتْ- بقلبها وعقلها ولسانها ودموعها ... ثم تنهض أَهْدَأَ ما تكونُ حالاً، وأرضى ما تكونُ نفساً، وأكثرَ ما تكونُ انشراحاً ونشاطاً .. لِلّهِ هذه المرأةُ المسلمةُ ما كان أَوْثَقَ ارتباطَها بكتاب الله عزَّ وجلَّ، كان القرآن العظيم حقيقةً لا كلاماً ولا وهماً ربيعَ قلبِها، ونورَ صدرِها، وجَلاءَ حُزنِها، وذَهابَ همّها .. كان القرآن حياتها وباعِثَها، ودليلَها وهاديها في مختلف مشاعرها ومواقفها وخطواتها، وكان حِصْنَها الحصين، وملجأها الأمين، عندما كانت تُطْبِقُ علينا في بعض أيامنا الظلمات، وتعصفُ حولَنا العواصف، وتطرُقُ أبوابَنا المخاوفُ والمخاطر، فلا يكونُ أحدٌ في الدنيا أكثرَ مها وهي تعتصم بالإيمانِ والقرآنِ طُمَأْنينةً وأمناً، ولا قدرةً على الثبات والصبر، وعلى تحدّي الطاغوتِ ولو ملأ بطغيانه الدنيا ... )
ثم قال: (ما أحبَّتْ زوجةٌ زوجَها أكثرَ ممّا أحبتْ بنانُ زوجَها.
وما فهمتْ زوجةٌ زوجَها أكثرَ ممّا فهمت بنانُ زوجها.
وما أعانت زوجةٌ زوجَها أكثرَ ممّا أعانت بنانُ زوجَها.
وما تعبت زوجة بزوجها، ولا ضَحّت زوجة من أجل زوجها أكثرَ ممّا تعبت وضحَّتْ بنان.
وما شاركت زوجة زوجها في النعماء والبأساء، والسرّاء والضرّاء، واليُسر والعُسر، والصحة والمرض، والأمن والخوف، والغربة والوطن بقلبها وفكرها وكلِّ كيانها وطاقاتها، وآثرتْ زوجَها على نفسها في مختلف ظروفها وحالاتها أكثر من بنان.
¥