لقد امتزجتْ حياتُها بحياتي قَلْباً وفكراً، ورؤيةً وأملاً، وإرادةً وعملاً .. كان قلبي ينبضُ في صدرِها فَتُحِسُّ ما أُحِسّ، وتطلبُ ما أطلب؛ وكان قلبُها ينبضُ في صدري فأُحِسُّ ما تُحِسُّ وأهفوا إلى ما إليه تهفو، فكأننا في معظم أمورِنا شخص واحد: إذا تكلمتْ -كما يعرف ذلك كلُّ من صَحبنا أو عَرَفَنا أو سَمِعَنا - فالروحُ روحي، والنّبْرَةُ نَبْرَتي، واللهجةُ لَهجتي؛ وإذا كتبتْ فاللغةُ لُغتي، والأسلوب أسلوبي؛ فما يُفَرِّقُ بين ما أكتُبه أو تكتبه إلاّ ذَوّاقَةٌ خبير ... ).
توجُّعها لأحوال المسلمين المعذَّبين في جَنَبَات الأرض.
وكانت كثيرة التوجع على أحوال المسلمين هنا وهناك، سريعة البكاء لهم، مسارعةً بإيصال الخير لأقربهم، دائمة الدعاء بالتفريج عنهم.
وفي ذلك يقول عنها زوجها عصام العطار: (لم تحمل في قلبها وفكرها هموم بلدها وأهلها وأخواتها وإخوتها فحسب، بل حملت مع ذلك هموم عالمها العربيّ والإسلامي، وهموم الإنسانية والإنسان أَنَّى كان هذا الإنسان، وفاضت في قلبها الرحمة فشملت سائر المخلوقات، وكم رأيتُها تبكي لمآسي ناس لا نعرفهم في بلاد لا نعرفها، وكم سمعتها تُذكِّر في أحاديثها ودعوتها إلى تعارف الشعوب وتراحمها وتعاونها على الحق والعدل والخير، بقول الله عزَّ وجلَّ لرسوله الكريم:) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ([الأنبياء: 107] وقول الرسول r : « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تبارك وتعالى. ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ ... » رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وقول الله تبارك وتعالى:) ... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... ([المائدة:2]
ثم يسترسل زوجها قائلا: (كانت الشهيدة الكريمة «أم أيمن» - رحمها الله- تقول: «لا يكفي أن يسمعَ الناسُ منّا عن الإسلام؛ بلْ يجب أن يَرَوْهُ فينا ويُحِسّوه ويَلْمسوه لَمْسَ الأيدي .. يجب أن يَرَوْه دَمْعَةً لاهِبَةً في أعيننا لآلام المصابين،
ويداً حانيةً تمسح جراحاتِ المعذّبين،
وصَرْخَةً مُدَوِّيةً في وجه الظلم والظالمين،
وعَوْناً خالصاً على الهداية والحق والخير في متاهات الحياة ونوازل الحياة
وأن يُحِسّوهُ حُبّاً دافِقاً يَنْسَرِبُ من القلوب إلى القلوب ومشاركةً وجدانيّةً صادقة في السرّاء والضرّاء، ورحمةً واسعة تَسَع الإنسانيّةَ كلَّها، وتَبْلُغُ الإنسانَ حيثما كان، وتتجاوزه إلى كلّ مخلوق ..
الدعوةُ الإسلاميةُ المُثلَى ليست مجرّد كلماتٍ، ومعرفةٍ قليلة أو كثيرة، وبراعةِ فكرٍ وبيان، وطلاقةِ لسان .. ولكنّها روحٌ ينطلق من أعماق الأعماق، ويَسْري دَماً في العروق، ويَنْتَظِمُ القلبَ والعقل، والمعرفةَ والفكر، والإحساسَ والشعور، والقولَ والعمل، ويتجسّمُ في مختلف بواطنِ الحياةِ وظواهرِها ومجالاتِها المتعدّدة، فتبصرُه العيون، وتُحِسُّهُ النفوس، وتَلْمسُهُ الأيْدي، في كلّ حركةٍ من الحركات، ويومٍ من الأيام .. »
وكذلك كانت «أم أيمن» - رحمها اللهُ - إلى حدٍّ بعيد .. بعيد
كانت الشهيدة «أم أيمن» تقول:
«لا أستطيع أن أنام وعيونُ أخواتٍ أُخْرَياتٍ ساهراتٌ، إذا كنتُ قادرةً على أن أحملَ إليهنّ بعضَ البلْسَم، أو أُضَمِّدَ لَهُنَّ بعضَ الجراح، أو أُساعِدَهُنّ على بعض العَزاء .. »
وكم قَطَعَتْ بي -وكانت هي التي تقود سيارتنا- مِئاتٍ ومِئاتٍ من الكيلومترات، في ضوءِ النهارِ أو ظُلمةِ الليل، وبهجةِ الصَّحْوِ أو كآبةِ المطر، واعتدال الجوّ أو شدَّةِ الحرِّ والبردِ وتَساقُطِ الثلج، لِنُلَبِّيَ استغاثةَ أُخت، أو لِنَحُلَّ مشكلةَ أُسرة، أو لِنشاركَ بقلوبنا قبلَ أجسامنا وألْسِنَتِنا بعضَ أفرادِ أُسرتِنا الإسلاميّة الكبيرة في بعض الأفراح أو الأتراح.
قلت لها مرّةً:
«ماذا تستطيعين لفلانة؟ .. لا أظنُّك تستطيعينَ لها شيئاً
قالت لي:
سأحاول جهدي، فإن عَجَزْتُ .. بكَيْتُ معها على الأقلّ، وشاركتُها الحزنَ والآلام، فأعانتِ الدُّموعُ الدموعَ، وخَفَّفتِ المشاركةُ لَذْعَ المصاب، ونَفّسَتْ شيئاً من كُرْبَةِ الصدرِ والقلب»)
ثم قال السيد عصام: (يا قارئاتِ ويا قرّاءَ هذه السطور:
¥