وأن شموع الأفراح قد أُوقِدَتْ، وشموس الأنوار قد أشرقتْ، وأن الصبايا الحور قد حضرتْ لزفاف العروس وهم في صفوف، وجاءت لتصعد بروحها الطاهرة إلى معارج السماء وهي بها تطوف.
وأن ملائكة الرحمن قد أعدَّت موكبًا – إن شاء الله – لاسْتقبالها عندهم هناك؟
وما أدراك ما هناك؟ حيث ما لا عينٌ رأتْ! ولا أذنٌ سمعتْ! ولا خَطَر على قلب بَشَر!
نعم: قد آنَ للجسد الضعيف أن يستريح، ويسْكنَ منه ذلك القلب الجريح!
نعم: قد آن الآوان لأن تتوقف تلك الدموع، ويطمئن ذلك الفؤاد الموجوع!
وهنا: جاء ميقات الأجل المحدود، ودقَّت ساعات ذلك اليوم الموعود المشهود.
وقامت المجاهدة بنان بكشف ما بينها وبين راحة قلبها من الحجاب، وفتحت بيدها مغاليق الباب
فهجم عليها أولئك الأنْذال الأرْذال! وقلبوا البيت رأسًا على عقِبَ في الحال؛ بحثًا عن زوجها عصام ليقتلوه أمام عين امرأته التي لا تجد لها من دون الله موئلا ولا ناصرًا!
ولمَّا لم يجد هؤلاء القَتَلة عِصَامهم! عمدوا بأيديهم إلى تمزيق بَنَانِهم!
وأحاطوا بالمرأة الضعيفة وقد أسدلوا عليها أستار الأحقاد! وغفلوا عن أنَّ عين الله تراقب أمثالهم من ظالمي العباد!
ثم تقدم إليها أشقى القوم، وشَهَر مسدسه في وجه المرأة الوحيدة وهي تنظر إليه نظرة المظلوم إلى ظالمه، والمقتول إلى قاتله!
وكأنها تقول له:
ما ذنبي حتى يُرَاق دمي؟
وما جريمتي حتى تستبيحون حُرْمتي؟
وما هي جنايتي حتى تطأونَ رقبَتي؟
وما هي جريرتي حتى تُيَتِّمُونَ ابني وابنتي؟
وما هو جُرْمي حتى تُثْكِلُونَ أبي وأُمِّي؟
وما هو سوء عملي حتى تذبحونَ بقتْلِي قلْبَ زوجي؟
لكن تلك النظرات التي تعصر قلوب أهل الإيمان، لم تكن بالتي تستطيع التأثير على أبناء الشيطان ومنْبع الظلم والطغيان!
وهنا: أطلق هذا المجرم الأثيم خمسَ طلقات متتابعات على جسد تلك المرأة المجاهدة.
فاخْتَرَقَتْ بعض الطلقات: وجهها الأسيل الجميل، ذلك الوجه الذي كانت دموع عينيه كثيرًا ما تتساقط على خدوده من خشية الله، وحزنًا على المسلمين المضطهدين المعذَّبين هنا وهناك.
ذلك الوجه الذي ما كان ينحني إلا لله وحده.
ذلك الوجه الذي كانت تَتَراءى على قَسَمَاته أنوار السماحة والرحمة في أسمى معانيها.
واخْتَرَقَتْ بعض الطلقات: جَنْبها وما تحت إبطها، ذلك الإبط الشريف الذي طالما تأبَّطَ المعونات والحوائج إلى تلك الأُسَر البائسة التي لا عائل لها!
وذلك الجنْب الرقيق الذي كان يتجَافَى عن المضاجع والناس نيام في سُبَاتٍ عميق!
واخْتَرَقتْ بعض الطلقات: صدرَها الحنون الحزين، ذلك الصدر الذي كانت تشتعل فيه دائمًا نيران الحسْرة على المشرَّدين والمطاردين هنا وهناك من أبناء المسلمين
ذلك الصدر الذي كان قلْبه ينزف كل يوم على أحوال الموحِّدين.
ذلك الصدر الذي كان يحتمَّل عظيم الأسَى والحزن ابتغاء مرضات الله وحده
ذلك الصدر الذي ما كان يَئِنُّ ويشتكي إلا إلى خالقه.
وبعد أن فرغ هذا القاتل الأجير من إنفاذ طلقات مسدسه في جسد ضحيته المغْتَرِبة الوحيدة، وشاهدها وهي تسقط أمامه والدماء تفور منها كما يفور ماء القِدْرِ إذا أوْقَدتَّ عليه النار!
لم يكْفِه ما اقترفتْه يداه مما لا تغسله مياه الأنهار! فقام يطَأُ ويدوس على قتيلة الإسلام بقدميه شديدًا! كأنه يظن نفسه يطأُ كلَّ جسد باع نفسه لله! وبذل مُهْجته ابتغاء مرضات الإله.
وما زال هذا القاتل الأثيم يطأ جسد القتيلة المظلومة حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها تشتكي له ظلم عباده لها ولزوجها! وتُخْبره – وهو أعلم – بقصة آلامها وأحزانها.
وأقول أنا أبو المظفر السِّنَّاري كاتب هذه المقالة: والله ليست أجد عندي الآن، من المعاني والبيان، ما أستطيع أن أصِف به ما يسكن في قلبي على تلك المرأة من المآسي والأشجان!
ووالله ما أكاد أدري كيف أتكلَّم؟ ومتى كان لسانُ قلمي يُفْصحُ عن مكنون صدري وما لأجْله أتوجَّعُ وأتألَّم!
لقد كان مقتل تلك المجاهدة في نفس العام الذي كان فيه ميلادي!
فانظروا كيف أن الأحزان لا تزال تلاحقُني منذ مبْدأي ومعادي؟
بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها ... وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ؟
¥