ولو قيل لي الآن: ماذا تشْتهي؟ لقلتُ مِنْ فَوْري: أشْتَهي - لو كنتُ في مدينة (آخن) الألمانية - أنْ آتي مقبرة «هُلْس» وأبحث عن قبر تلك المرأة الشريفة كي أدعو الله لها، وأقوم على جَدَثِها باسْتذكار صبرها وجهادها، ثم أقف على رأسها أبْكي حتى تَبِلَّ دموعي ما انتهتْ إليه من جسدي، وأجد حرارتها ما بين قلبي وصدري.
ليتتي كنت مع هؤلاء القوم الذين حملوا جنازتها على أعناقهم في يوم مشهود
في قلب مدينة (آخن) الألمانية.
http://www.way2jannah.com/vb/attachment.php?attachmentid=692&stc=1&d=1252769700
لقد كان نبأ مقتلها عظيم الوقْع على المؤمنين في تلك الأوقات، وقد سارتْ به الصحف السيَّارة، وتناقلتْه الوكالات والمجلات والجرائد.
حتى قام الشيخ عبد الحميد كشك المصري – وقد كان واعظ الدنيا في عصره – بإلقاء خطبة حزينة على آلالاف الناس، يذكر فيها خبر تلك المرأة المجاهدة التي اغتالتْها أيادي الغدر والظلم والعدوان.
وعلى هذا الرابط: تجد طرفًا من خطبة الشيخ كشك، يرحمه الله.
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_ id=4902 (http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson&iw_a=view&lesson_id=4902)
ولقد وقع الوجوم والاكتئاب على وجوه صالحي العباد في تلك الأيام، وحزنوا وبكوا على القتيلة المظلومة كأنها كانت بعض أقاربهم أو مَنْ يعرفون؟
وإذا كانت أشجاني وأشجان غيري على تلك المرأة التي لم يروها! ولم يعاشروها! فضلا عن أن تكون لهم بها صلة الأرحام! هي بعض ما ذكرتُ لك!
فيا تُرى كيف كان حال أبيها عليها؟ وهي التي كانت ريحانة حياته، وزهرة أوقاته، ونسمات إحساسه ومعانيه، وشمس أيامه وقمر لياليه؟
لعلي أنقل لكم الآن كلام أبيها وهو يقص نبأ مقتله بمقتلها، ويحكي خبر مصرعه بمصرعها!
قال في كتابه (ذكريات علي الطنطاوي):
(ابنتي بنان رحمها الله, وهذه أول مرة أذكر فيها اسمها, أذكره والدّمع يملأ عيني, والخفقان يعصف بقلبي, أذكره أول مرة بلساني و ما غاب عن ذهني لحظة، و لا صورتها عن جناني.
أفتُنْكرون عليّ أن أجد في كل مأتم مأتمها! وفي كل خبر وفاة وفاتها؟
وإذا كان كل شَجِىٌ يُثير شجاه لأخيه، أفلا يثير شجاي لبِنْتي؟
إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حُبِّي بناتي ...
ما صدَّقتُ إلى الآن وقد مرَّ على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة – الآن يقصد عام 1404 هـ - وأنا لا أصدِّق بعقلي الباطن أنها ماتت!
إنني أغفل أحيانا فأظن إنْ رنَّ جرس الهاتف، أنها ستُعْلِمُني على عادتها بأنها بخير؛ لأطمئن عليها، تكلِّمُني مستعجلة، تُرصِّفُ ألفاظها رصْفاً، مستعجلة دائما!
كأنها تحس أن الرَّدَى لن يُبْطئ عنها، وأن هذا المجرم! هذا النذل .... ! هذا ....... !
يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام، إن في اللغة العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة، وأمثالها.
ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس، حتى طرقتْ عليها الباب؛ لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها! على امرأة وحيدة في دارها! فضربها ضرب الجبان!
والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات! تلقَّتْها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع- يعني الرصاصات - في ظهرها! كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون:
ولَسْنا على الأَعقابِ تَدْمَى كُلُومُنا * * * ولكن على أَعقابنا يَقْطُرُ الدَّمُ
ثم داس الـ .... ! لا أدري والله بم أصفه؟ إن قلتُ المجرم، فمِنَ المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجِستين على التي قتلها ظلمًا؛ ليتوثَّق من موتها! ولكنه فعل ذلك كما أوصاه مَنْ بعث به لاغتيالها؟؟
دعس عليها برجليه؛ ليتأكد من نجاح مهمته! قطع الله يديه ورجليه، لا!!
بل أدَعُه وأدع من بعث به لله ... لعذابه ... لانتقامه ... ولعذاب الآخرة أشد من كل عذاب يخطر على قلوب البشر ...
لقد كلَّمْتُها قبل الحادث بساعة واحد!
¥