تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلتُ:أين عصام؟ - يقصد عصام العطار زوجها – قالت: «خَبَّرُوه – يعني السلطات الألمانية - بأن المجرمين يريدون اغتياله، وأبعدوه عن البيت، قلت: وكيف تبقين وحدكِ؟ قالت: بابا لا تشغل بالك بي، أنا بخير

ثِقْ والله يا بابا أنني بخير، إن الباب لا يُفْتَح إلا إنْ فتحتُه أنا، ولا أفتح إلا إنْ عرفتُ من الطارق وسمعتُ صوته، إنْ هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة،والمسلِّم هو الله.

ما خطر على بالها أن هذا الوحش، هذا الشيطان! سيُهدِّد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي، فتطمئن، فتفتح لها الباب.

ومرّت الساعة ... فقرع جرس الهاتف ... وسمِعْتُ من يقول: كَلِّمْ وزارة الخارجية ... قلتُ: نعم.

فكلَّمني رجل أحسسْتُ أنه يتلعثم ويتردَّد، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدْلاء به بُلَغاء الرجال، بأن يخبرني ... كيف يخبرني؟؟

ثم قال: ما عندك أحدٌ أكلِّمه؟ وكان عندي أخي. فكلّمه، وسمع ما يقول ورأيته قد ارتاع مما سمع، وحار ماذا يقول لي؟

وأحسست أن المكالمة من ألمانيا، فسألته: هل أصاب عصاماً شيء؟؟ قال: لا، ولكن .... قلت: ولكن ماذا؟؟ قال: بَنَان، قلت: مالها؟؟ قال، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء! ....

وفهمتُ وأحسستُ كأنَّ سكيناً قد غُرِس في قلبي،ولكني تجلَّدتُ وقلتُ هادئاً هدوءاً ظاهرياً، والنار تضطرم في صدري: حدِّثْني بالتفصيل بكل ما سمعتَ. فحدَّثَني ...

وثِقوا أني مهما أُوتِيتُ من طلاقة اللسان، ومن نفاذ البيان، لن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعتُ ....

كنت أحسبني جَلْداً صبوراً، أَثْبُتُ للأحداث أو أواجه المصائب، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات ...... !!

و انتشر في الناس الخبر، و لمستُ فيهم العطف و الحب و المواساة ...

ووصلتْني برقيَّات تُواسيني، و إنها لَمِنَّة ممن بعث بها وممن كتب، يعجز لسان الشكر عن وفاء حقها.

ولكني سكت! فلم أشكرها و لم أذكرها, لأن المصيبة عَقَلَتْ لساني, وهدَّتْ أركاني، و أضاعت عليّ سبيل الفكر!

فعذرًا و شكرًا لاصحاب البرقيات و الرسائل .....

صحيح أنه:

ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة * * * يُواسيك أو يُسْلِيك أو يتوجَّعُ

ولكن لا مواساة في الموت, والسَّلْو مُخَدَّرٌ أثَرُه سريع الزوال.

والتّوجع يُشْكر ولكن لا ينفع شيئا!!

وأغلقت عليّ بابي، وكلما سألوا عني ابْتَغى أهلي المعاذير, يصرفونهم عن المجيء, ومجيئهم فضل منهم, و لكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع.

لم أرِدْ أن تكون مصيبتي مضغة الأهواء, ولا مجالا لإظهار البيان, إنها

مصيبتي وحدي، فدعوني أتجرَّعها وحدي على مَهَلٍ.

ثم فتحتُ بابي, وجعلت أُكلِّم مَنْ جاءني, جاءني كثير ممن أعرفه ويعرفني وممن يعرفني ولاأعرفه؟

وجعلت أتكلم في كل موضوع إلا الموضوع الذي جاؤوا من أجله! واستبقيتُ أحزاني لي, و حدَّثْتُهم كل حديث، حتى لقد أوردتُ نُكَتًا - يعني فوائد- ونوادر!!!

أتحسبون ذلك من شذوذ الأدباء؟ أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يُعْرَفوا بها؟

لا والله، ولكن الأمر ما قلتُ لكم.

كنتُ أضحك، وأضْحِك القوم! وقلبي وكل خلية في جسدي تبكي!!

فما كل ضاحك مسرور:

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا * * * فالطير يرقص مذبوحا من الألم!!

إني لأتصوّر الآن حياتها كلها مرحلة مرحلة, و يوما يوما، تمر أمامي

متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني.

لقد ذكرتُ مولدها، وكانت ثانية بناتي, ولقد كنتُ أتمنّى أن يكون - يعني أول أولاده - ذَكَرًا!

وقد أعددتُ له أحلى الأسماء!

ما خطر على بالي أن يكون أنثى!

وسمَّيْتُها عنان – هي بنته الكبرى - وولِدَتْ بعدها بسنتين بنان.

اللهم ارحمها.وهذه أول مرة أو الثانية التي أقول فيها: اللهم ارحمها!!

وإني لأرجوا الرحمة لها، ولكني لا أستطيع أن أتصوَّر موتها!!

ولمَّا صار عمرها أربع سنوات ونصف السنة أصرَّتْ على أنْ تذهب إلى المدرسة مع أختها, فسعيتُ أن تُقْبَل من غير تسجل رسميًّا.

فلما كان يوم الامتحان ووزِّعتْ عَلَماتها المدرسية، وقد كتب لها ظاهريا لتسرَّ بها ولم تسجِّل عليها.

قلت هيه؟ ماذا حدث؟

فقفَزَتْ مبتهجة مسرورة، وقالت بلهجتها السريعة الكلمات, متلاحقة الألفاظ:

بابا: كلها أصفار أصفار أصفار!!

تحسب الأصفار هي خير ما يُنَال؟!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير