ولكن النحاة حينما لمسوا أن النحو ما نشأ إلا للحفاظ على القرآن الكريم من اللحن، بعد أن دخل في الدين الحنيف أجناس عديدة من العجم زرافات ووحدانا، ما جعل اللحن يتسرب إلى كثير من أبناء العرب الفصحاء، ورأوا أن من صميم واجبهم الدفاع عن نظم القرآن الكريم، باتوا يردون كثيرا من القراءات الصحيحة لأجل مخالفتها لما كانوا قد قعدوه، وصنيعهم هذا يرد عليه سؤال يثير جملة من الإشكالات، وهذا السؤال، هو: هل القاعدة النحوية دليل على صحة القراءة حقا، أم العكس؟
الذي أراه، هو: أن القراءة إذا صح سندها، واستفاضت، لا يضرها مخالفة ما قعد النحاة، وأن القراءة حينئذ تكون قادحة في صحة إطلاق القاعدة، فيجب تعديلها، أو إعادة صياغتها، وذلك لأسباب عديدة، سأذكر منها خمسة، والبقية جاءات منثورة في كتابي أسباب اختلاف النحاة، فلينظرها فيه من شاء:
السبب الأول: أن تلك القواعد هي حصيلة استقراء ناقص لكلام العرب، ودليل ذلك أنهم قالوا: ما ضاع من الشعر إلا عشره، وما حفظ من النثر إلا عشره، وكثير من شواهدهم من الشعر، على الرغم من أنهم يقولون: الشعر محل الضرورات، والضرورات لا يؤخذ بها في سن القاعدة. والحجة في صحة ما ذكرت من أن الاستقراء كان ناقصا: ما نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أنه قال:" كان الشعر علم القوم، ولم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم أكثره ".
وما نقل عن أبي عمرو بن العلاء، أنه قال:" ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير".
والثاني: أن النحاة لم يأخذوا ببعض الشواهد الصحيحة التي تدل على صحة القراءة؛ لأجل عدم اطمئنانهم إليها، وإن كانوا قد أخذوا ببعض الشواهد الشعرية المجهولة القائل، ما جعلهم يضعون القاعدة على غير المنهج الذي اتبعوه من الاحتجاج بكل ما كان في عصر الفصاحة ومكانها، ولذلك حينما وقف على تلك الشواهد نحاة العصور اللاحقة قالوا بها، ولم يكترثوا لما قعده السابقون، مثال ذلك رد أهل المذهبين: البصري والكوفي قراءة حمزة: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ) بخفض الميم، حتى إن المبرد قد قال:" لو صليت خلف إمام يقرأ: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)، و (وما أنتم بمصرخيِّ) لأخذت نعلي ومضيت"، على الرغم من أن الشواهد على صحة قراءة حمزة كثيرة، منها قول الشاعر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعبِ غوط نفانف
والثالث: أن النحاة قد ردوا بعض القراءات الصحيحة لأجل غياب الشاهد عنهم، مثال ذلك: إنكار الكسائي عمل (إن) المخففة من الثقيلة النصب في الاسم؛ بحجة أنه لا يحفظ شاهدا من كلام العرب يدل على ذلك، ولذا أنكر قراءة نافع وابن كثير وعاصم من رواية أبي بكر، إلا أن الأخير شدد ميم لما: (وإنْ كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم)، مع أن سيبويه قال في كتابه:" حدثنا من أثق به، أنه سمع العرب تقول: إنْ عمرا لمنطلق"، وقد قرأ الكسائي الكتاب على الأخفش، ودفع له مائتي دينار.
والرابع: جعلهم القواعد النحوية قواعد معيارية، لا يحوز خرقها ولا مخالفتها؛ فهي قواعد موضوعة لحفظ اللغة، وصيانتها من الخطأ واللحن، ولذلك أخضعوا السماع لأقيستهم التي ارتأوها، وهذه المسألة: أعني مسألة تعارض النقل مع العقل المعبر عنها هنا عند النحاة بمسألة تعارض السماع مع القياس، هي: مسألة جدلية في الفكر الإسلامي، فمنهم من ذهب إلى تقديم السماع، كأبي عمر بن العلاء، ومنهم من ذهب إلى تقديم القياس كعبدالله ابن أبي إسحاق الحضرمي.
ومثال هذا السبب: رفض نحاة المذهبين الفصل بين المتضايفين بغير شبه الجملة؛ بحجة أن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، ولأن المضاف إليه يقوم مقام التنوين، فكما لا يحسن الفصل بين التنوين والمنون، فكذلك لا يحسن الفصل بين المتضايفين إلا في ضرورة الشعر عند الكوفيين، والبصريون يمنعونه حتى في الشعر، ولذلك ضعف كلا الفريقين قراءة ابن عامر: (وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم).
والخامس: عدم إدراك المعنى، وذلك كرد نصر بن عاصم قراءة الجمهور: (قل هو الله أحدٌ الله الصمد) بتنوين أحد؛ وحجته منع التقاء الساكنين بالحذف؛ لأنه قد غاب عنه أن التنوين يأتي لمعنى؛ فالتنوين علامة، وحذفه عند بعضهم قبيحا.
وإذا كان ذلك كذلك، فإني أرى أن شرط الموافقة للعربية ينبغي أن لا يعول عليه، وأرى ضرورة إسقاطه؛ فالقراءة التي قد وصلت إلينا بالسند الصحيح، وتلقتها الأمة بالقبول والرضى، لابد وأن يكون لها وجه من كلام العرب، وإن لم يصل إلينا، ونحاة القرن الرابع حينما لمسوا ذلك أحدثوا فنا جديدا من فنون علوم القرآن الكريم، وهو: فن الانتصار للقراءات القرآنية، وتخريجها، وبيان مشكلها، وخير من صنف في هذا الفن: ابن حيان الأندلسي، وكتابه في ذلك هو: (البحر المحيط).