تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَقِيلَ: الشَّكّ ضِيق الصَّدْر ; أَيْ إِنْ ضَاقَ صَدْرك بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ فَاصْبِرْ , وَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَاب مِنْ قَبْلك يُخْبِرُوك صَبْر الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلك عَلَى أَذَى قَوْمهمْ وَكَيْفَ عَاقِبَة أَمْرهمْ. وَالشَّكّ فِي اللُّغَة أَصْله الضِّيق ; يُقَال: شَكَّ الثَّوْب أَيْ ضَمَّهُ بِخِلَالٍ حَتَّى يَصِير كَالْوِعَاءِ. وَكَذَلِكَ السُّفْرَة تُمَدّ عَلَائِقهَا حَتَّى تَنْقَبِض ; فَالشَّكّ يَقْبِض الصَّدْر وَيَضُمّهُ حَتَّى يَضِيق.

فهذا توجيه ثالث معتمد على معنى من معاني الشك في لغة العرب فلا يلزم منه الشك المتبادر إلى الذهن، وإنما قد يأتي بمعنى ضيق الصدر، وألفاظ العربية، كما هو معلوم، تحتمل معان كثيرة يحددها السياق.

وشاهد لغوي رابع في هذه المسألة وهو قول الْحُسَيْن بْن الْفَضْل: الْفَاء مَعَ حُرُوف الشَّرْط لَا تُوجِب الْفِعْل وَلَا تُثْبِته. ُ

فلا يلزم من قوله تعالى: (فإن كنت في شك)، إثبات الشك أو نفيه لأن حرف الشرط "إن" اقترن بالفاء، فليس لمدع أن يدع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شك استدلالا بهذه الآية لأنها ليست نصا في إثبات الشك أو نفيه، فدعواه مقابلة بدعوى النافي، فإن قال شك، قلنا: لم يشك، لأن الآية تحتمل الوجهين، فلم نرجح دعواك على دعوانا؟!!!!، فدعوى مقابل دعوى، بل إن دعوانا مؤيدة بالنص الفاصل في محل هذا النزاع، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة: (وَاَللَّه لَا أَشُكّ)، فهو كما يقول الفقهاء: نص في محل النزاع، وبذلك تنهار دعواكم من أساسها.

فعلم من هذه الأقوال الراسخة لأئمة اللغة وأهل العلم أهمية الإلمام بلغة العرب حتى يمكن معرفة هذه المعاني الدقيقة التي قد تشتبه على البعض فيجد فيها أعداء الإسلام فرصة سانحة للطعن في آي القرآن، وهذا ما أراد ذلك الأخ الكريم لفت نظري إليه، لأن حوارنا كان يدور حول أهمية الإلمام بعلوم الآلة عموما كالنحو والأصول، وعلوم العربية خصوصا لأنه لا سبيل إلى فهم نصوص الكتاب والسنة إلا بمعرفة لغة من نزل عليهم القرآن، فهو، كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله، يفسر بلغة تسبقه كلغة الجاهليين أو بلغة من نزل عليهم من العرب، ومعلوم أن زمن الاحتجاج ينتهي سنة 150 هـ في الحضر، وسنة 250 هـ في البادية لأنهم أصح لسانا وأبعد عن العجمة التي تفشت في الحواضر نتيجة الاختلاط بغير العرب، والله أعلم.

ومن الأمثلة التي يستأنس بها في هذا للموضع قوله تعالى في سورة الإسراء: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة)، فالآية نازلة في حادثة المعراج، وظاهر لفظ "الرؤيا"، أنها رؤيا منامية، لأن المشهور عند علماء اللغة أنك تقول: رأيت رؤيا صالحة، إذا كنت تريد أنك رأيت في منامك، وتقول: رأيت رؤية، إذا كنت تريد أنك أبصرت بعينك في حال يقظتك، بل إن بعض أهل اللغة يوجبون ذلك ولا يجيزون خلافه، وعليه قد يستدل بهذه الآية على أن المعراج كان مناما لا يقظة وهو المخالف لقول جماهير أهل العلم من أن المعراج كان بالروح والجسد معا، وتخريج هذه الآية هو: أن العرب قد استخدمت "الرؤيا" للرؤية البصرية الحقيقة، ولكن بقيد أن تكون رؤية غريبة بمعنى أنها غير معهودة لا تتكرر كالرؤية البصرية العادية، ولا شك أن رؤيا المعراج رؤية معجزة غير معهودة فتدخل في هذا الحد، ويشهد لذلك من كلام العرب قول الراعي يصف صيادا أبصر الصيد فسره بذلك:

فكبر للرؤيا وهش فؤاده ******* وبشر قلبا كان جما بلابله

فكأن هذا الصياد أبصر هذا الصيد بعد طول انتظار حتى صح بأن رؤيته له في هذه الحال رؤية غريبة غير معهودة لندرة تكرارها بدليل أنه لم يتمالك نفسه من السرور لما رأى هذا الصيد الذي لا يتكرر كثيرا، فكبر وهش فؤاده، والله أعلم.

بتصرف من "منحة الجليل"، للشيخ محمد محيي الدين، رحمه الله، (2/ 41).

فمن لم يحط علما بدلالات لفظ "الرؤيا" وقع في إشكال تخريج هذه الآية بحيث تتوافق مع أقوال جماهير أهل العلم.

والخلاصة أيها الكرام، أن اللغة تدخل في أبواب كثيرة من أبواب الدين فالدلالات اللفظية في علم الأصول على سبيل المثال، من عام وخاص ومطلق ومقيد .......... الخ تعتبر من أهم مباحث هذا العلم إن لم تكن أهمها على الإطلاق لأنها وسيلة الناظر في الأدلة لاستنباط الحكم الشرعي، فكيف يستنبط المجتهد حكما شرعيا من نص عربي وهو لا يلم باللغة العربية التي جاء بها هذا النص؟!!!!!، ومن هنا وقع أهل البدع من المؤولة وغيرهم فيما وقعوا فيه من جهة ضعف عربيتهم فجلهم، إن لم يكن كلهم، أعاجم، وما تجرأ أمثال ذلك النصراني على إثارة هذه الشبهات إلا بسبب إعراض المسلمين عن لغة كتابهم ودينهم إلى غيرها من لغات الأمم، والله المستعان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير