قال: «حفص بن بغيل ... قال ابن القطان: (لا يعرف له حال، ولا يعرف). قلت: لم أذكر هذا النوع في كتابي هذا، فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره، ما يدل على عدالته، وهذا شيء كثير، ففي (الصحيحين) من هذا النمط خلقٌ كثير مستورون، ما ضعفهم أحد، ولا هم بمجاهيل» [23] اهـ
والأمثلة على هذا متعددة، وإنما أردت هنا الإشارة إلى هذا.
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلّمي: «فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً، أو حديثاً واحداً، وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه، ومنهم من يجاوز ذلك، فابن حبان قد يذكر في (الثقات) من يجد البخاري سماه في (تاريخه) من القدماء، وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد، وربما تعنّت، فيمن وجد في روايته ما استنكره وإن كان الرجل معروفاً مكثراً، والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد، وابن معين والنسائي، وآخرون غيرهما يوثّقون من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي: متابعٌ أو شاهد، وإن لم يُروَ عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد.
فممن وثّقهُ ابن معين من هذا الضرب: الأسقع بن الأسلع والحكم بن عبد الله البلوي ووهب بن جابر الخيواني وآخرون.
وممن وثّقهُ النسائي: رافع بن إسحاق وزهير بن الأقمر وسعد بن سمرة، وآخرون.
وقد روى العوام بن حوشب عن الأسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد عن عبد الله بن عمرو بن العاص حديثاً، ولا يُعرف الأسود وحنظلة إلا في تلك الرواية؛ فوثّقهما ابن معين.
وروى همام عن قتادة عن قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب حديثاً، ولا يُعرف قدامة إلا في هذه الرواية، فوثّقهُ ابن معين.
مع أن الحديث غريب وله علل أخرى (راجع سنن البيهقي 3/ 248).
ومن الأئمة من لا يوثّق من تقدمه حتى يطّلع على عدة أحاديث له تكون مستقيمة وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت مَلَكَةً لذلك الراوي، وهذا كله يدل على أن جلّ اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على يسبر حديث الراوي، وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في (الثقات)، وذكره ابن حجر في (لسان الميزان1/ 14) واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيراً من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي فوجدها مستقيمة تدل على صدقٍ وضبط، ولم يبلغه ما يوجب طعناً في دينه: وثّقه. وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف» [24] اهـ
قلت: هذا الكلام الذي قاله المعلّمي ظاهر لمن تتبع كلام هؤلاء الأئمة، وهو كلامٌ نفيسٌ في هذه المسألة -وقد سبقه إلى نحوه الذهبي كما تقدم- وكل الذين ذكرهم المعلّمي، قد ذكرهم الذهبي في (الميزان) ونص على جهالتهم، أو أشار إلى ذلك.
فقد تقدم كلامه على أسقع.
وقال عن الحكم بن عبد الله: «لا يعرف».
وقال عن وهب بن جابر: «لا يكاد يُعرف».
وقال عن أسود بن مسعود: «لا يُدرى من هو».
وقال عن قدامة بن وبرة: «لا يعرف».
2. سكوت البخاري وأبو حاتم عنه كما تقدم، وسكوتهما عن الراوي تقوية له في الجملة.
أما سكوت البخاري:
فقد قال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يربوع الإشبيلي (ت522) –في كلامه على أحد الرواة-: «بيّن مسلم جرحه في صدر كتابه، وأما البخاري فلم ينبه من أمره على شيء، فدل أنه عنده على الاحتمال؛ لأنه قد قال في (التاريخ): كل من لم أبين فيه جُرحةً فهو على الاحتمال. وإذا قلت: فيه نظر، فلا يحتمل» [25].
وقال المَجْد ابن تيمية (ت652) -في نقاشه لتضعيف أحد الرواة-:
«ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في (تاريخه) ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين» [26].
وأما سكوت ابن أبي حاتم فقد ذكر في مقدمة (الجرح والتعديل) أن من منهجه أنه إذا لم يقف على كلامٍ على أحد الرواة فإنه يسكت عنه.
وهذا يفيدنا أن هذا الراوي -على الأقل- لم يتكلم فيه أحد؛ ولذا لم نقف على أحدٍ ذكره في كتب الضعفاء، أو أحد استنكر حديثه هذا، كما سيأتي قريباً.
هذا وقد تقدم أن ابن حبان ذكره في (الثقات).
¥