تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهنا لجأت الجهمية إلى الحيلة الماكرة بادعاء أنهم يقفون في أمر القرآن ورعاً وخوفاً من الله بزعمهم، فتلقف هذه المقولة بعض المحدّثين، ممن لم يتفطن لحيلة الجهمية، وظنوا أنّ هذا هو السبيل الذي يقتضيه الورع والخوف من الله، أما أئمة السنّة من ذوي البصيرة بمسألة القرآن، والبصيرة أيضاً بمقالة الجهمية فقد تفطّنوا للأمر تماماً، ولذا قال الإمام أحمد عن الجهمية كما عند الخلال (1782): «استتروا بالوقف».

وقال مقارناً بين الواقفة والجهمية الأوائل كما عند الخلال (1799): «الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء إذا قالوا: إنا لا نتكلم، استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية».

وقال أيضاً كما عند الخلال (1797) عن القائلين بالوقف: «كلام سوء، هو ذا موضع السوء وقوفُه، كيف لا يعلم؟ إما حلال وإما حرام، إما هكذا وإما هكذا ... إنما يرجعون هؤلاء إلى أن يقولوا: إنه مخلوق، فاستحسنوا لأنفسهم فأظهروا الوقف».

وهكذا قال العمري، كما عند اللالكائي (527): «الذي لا يقول إنه غير مخلوق فهو يقول مخلوق، إلا أنه جعل هذه سترة يستتر بها».

وبه نعلم أنّ الجهمية أظهرت في الناس هذا القول من باب التقية والخديعة، وإلاّ فقولهم معروف، إبان قوة شوكتهم، حين امتحنوا علماء الأمة محنة عظيمة سجنوا فيها وضربوا وقتلوا، حتى إنهم في خلافة الواثق كانوا لا يُخلِّصون الأسير المسلم من يد العدو إلا بعد أن يمتحنوه بمقولتهم الباطلة في القرآن، فإن أقرّ خلّصوه، وإن أبى تركوه في يد العدو! كما ذكر الطبري في أحداث عام (231) من (تاريخه 5/ 285)، ثم بعد كل هذا أظهروا هذه المقولة حين ضعف أمرهم، مصانعة وتقية ليس إلا.

ومن أوضح الأدلة على ذلك أنّ زعيم الواقفة في زمن الإمام أحمد هو محمد بن شجاع الثلجي، تلميذ بشر المريسي إمام المريسية ذات المقالات الرديئة، لا في مسألة القرآن فحسب، بل في أبواب كثيرة من أبواب الاعتقاد.

وكان ابن الثلجي يسمى (ترس الجهمية) كما ذكر ابن تيمية في (التسعينية 1/ 344) وأصوله أصول جهمية، كما لا يخفى على من عرفه.

ولذا فإنه عندما أوصى نص في وصيته بالثلث على الآتي: «ولا يُعطى من ثلثي إلا من قال: القرآن مخلوق»! (تهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 221).

فتبيّن بذلك أنّ قول الواقفة في أصله قول للجهمية، ولذا ذكر أحمد أن الجهمية ثلاث فرق، ذكر منها فرقة تقول: «القرآن كلام الله وتسكت» كما في كتاب (سيرة الإمام أحمد، لابنه صالح (ص72)).

وإنما ركّزت هنا على كلام أحمد؛ لأنه إمام أهل السنّة في وقته الذي صمد للقائلين بخلق القرآن، وعرف حقيقة قولهم وناظرهم وتحمّل في ذلك ما لا يخفى على من عرف تاريخه.

وبناءً على ذلك وجب على أحمد وعلى غيره ممن عرف الأمر على جليته تحذير الأمة من هذه الخديعة، نصحاً لأئمة المسلمين وعامتهم؛ لأنّ الوقوف كان باباً خطيراً تدخل منه الجهمية إلى مرادها.

أما من وقف من المحدِّثين الذين لم تتبيّن لهم حقيقة المسألة فالأمر فيهم كما قال الدارمي حين ذكر أنّ من أكبر ما احتج به الواقفة أن من المحدّثين من قالوا بالوقف، وأجاب بأنّ هذه الأغلوطة التي ذكرتها الجهمية لما وقعت في مسامع هؤلاء لم يتفطنوا لها، أما غيرهم من أهل البصر بالجهمية وبمرادهم، ممن جالسهم وناظرهم فصرحوا على علم ومعرفة أنّ القرآن غير مخلوق، والحجة إنما هي بالعارف بالشيء لا بالغافل عنه، القليل البصر به، فإن يكن الواقفون من المحدثين إنما جبنوا عن قلة بصيرة، فقد اجترأ أولئك الأئمة وصرحوا ببصيرة، وكانوا من أعلام الناس، وأهل البصر بأصول الدين وفروعه. (ينظر الرد على الجهمية ص (196)).

وقال ابن تيمية في (الفتاوى 2 - 477) أثناء كلامه عن موقف السلف من الجهمية: «السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه، فإن كثيراً من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة حتى يتدبرها، ويرزق نور الهدى، فلما اطلع السلف على سرِّ القول نفروا منه».

فهذه حقيقة القول بالوقف في القرآن، في أصل نشأته، وهدف من أثاره، وسبب وقوع بعض المحدثين، ممن لم يكن جهمي الأصول في التورط به.

فهل يستحق قول بهذه المثابة التي بيّنّا أن ندافع عنه ونتبنّاه بعد أن مضى عليه (12) قرناً توالى علماء الأمة على دحضه ورده؟

الأمر الثاني

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير